اسم الکتاب : فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة المؤلف : البوطي، محمد سعيد رمضان الجزء : 1 صفحة : 221
للدارس المتأمل. أريد من القارئ أن ينتبه بفكره إلى هذه الحقيقة، بمقدار ما يمعن بعضهم في الإعراض عنها، وإن قابلتهم وجها لوجه أثناء البحث، بأدلة ثابتة لا تقبل الشك.
رابعا: ما هي الحكمة، ترى، في استشارته عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه، في أن يعرض صلحا على غطفان، قوامه إعطاؤهم ثلث ثمار المدينة على أن ينصرفوا عن تأييد قريش ومن معهم، ويرجعوا عن حرب المسلمين، وما هي الدلالة التشريعية التي تؤخذ من تفكيره هذا؟ ..
أما الحكمة، فهي أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يريد أن يطمئن إلى مدى ما يتمتع به أصحابه الصادقون، من القوة المعنوية والاعتماد على نصر الله وتوفيقه على الرغم من هذا الذي فوجئوا به من اجتماع أشتات المشركين عليهم في كثرة ساحقة، إلى جانب ما طلعت به بنو قريظة في الوقت نفسه من نقض العهود والمواثيق. وقد كان من عادته صلّى الله عليه وسلم- كما قد رأيت- أنه لم يكن يحب أن يسوق أصحابه إلى حرب أو مغامرة لا يجدون في أنفسهم شجاعة كافية لخوضها، أو لا يؤمنون بجدواها، وقد كان هذا من أبرز أساليبه التربوية صلّى الله عليه وسلم لأصحابه. فمن أجل ذلك، عرض على أصحابه هذا الرأي، وأنبأهم أنه ليس تبليغا من الله تعالى، وإنما هو شيء يبديه لهم كي يكسر عنهم شوكة المشركين، إذا كانوا لا يجدون في أنفسهم طاقة على مقابلتهم.
وأما الدلالة التشريعية في هذه الاستشارة، فهي محصورة في مجرد مشروعية مبدأ الشورى في كل ما لا نص فيه. وهي بعد ذلك لا تحمل أي دلالة على جواز صرف المسلمين أعداءهم عن ديارهم إذا ما اقتحموها، باقتطاع شيء من أرضهم أو خيراتهم لهم. إذ مما هو متفق عليه في أصول الشريعة الإسلامية أن الذي يحتج به من تصرفاته صلّى الله عليه وسلم إنما هو أقواله، وأفعاله التي قام بها، ثم لم يرد اعتراض عليها من كتاب الله تعالى، فأما ما كان من ذلك في حدود الاستشارة والرأي المجردين فلا يعتبر دليلا بحال. إذ الاستشارة أولا: يمكن أن يكون المقصود منها مجرد استطلاع لما في النفوس كما ذكرنا، أي فهي ممارسة لعمل تربوي بحت، وهي ثانيا: حتى ولو انتهت بعمل تنفيذي، يمكن أن يرد عقبه اعتراض من كتاب الله تعالى، فلا تبقى فيه أي دلالة تشريعية.
على أن علماء السيرة نصّوا، كما قد رأيت، على أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يبرم صلحا مع غطفان ولم تقع شهادة ولا عزيمة على الصلح وإنما كان الأمر مراوضة لم يتجاوزها.
نقول هذا، لأن فئة مجهولة في عصرنا هذا، أخذت تزعم زعما شنيعا في منتهى الغرابة، وهو: أنه يجب على المسلمين أن يدفعوا (الجزية) ! إلى غير المسلمين إذا اقتضت الحاجة، مستدلة على ذلك بأنه صلّى الله عليه وسلم قد استشار أصحابه في غزوة الأحزاب أن يفعل ذلك! ..
وبقطع النظر عن هذا الذي أوضحناه من أن مضمون الرأي المعروض على بساط الاستشارة
اسم الکتاب : فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة المؤلف : البوطي، محمد سعيد رمضان الجزء : 1 صفحة : 221