اسم الکتاب : فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة المؤلف : البوطي، محمد سعيد رمضان الجزء : 1 صفحة : 199
رسالة ربّهم والجهاد في سبيله. لقد أوضحت الصورة أنهم كانوا فقراء لا يجدون حتى الظهر الذي يمتطونه لجهادهم وغزواتهم، فالستة أو السبعة يتبادلون ركوب بعير واحد في قطع مسافة بعيدة شاقة، ولكن الفقر لم يستطع مع ذلك أن يعوقهم عن أداء رسالتهم، رسالة الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله. فقد تحملوا في سبيل ذلك كل النتائج وكل ألوان المحن ... نقبت أقدامهم من طول سيرها على الوعثاء والقتاد، وتساقطت أظافرهم مما اصطدمت بالحجارة والصخور، وتعرّت أقدامهم فلم يجدوا إلا الخرق يلفونها عليها الواحدة فوق الأخرى!! .. ومع ذلك فما ضعفوا وما استكانوا واستهانوا بكل ذلك في جنب عظم المسؤولية الإلهية الملقاة على أعناقهم منذ أن أصبحوا مسلمين، فقد كانوا يتمثلون قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة 9/ 111] .
ثم إنك ترى أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه، كره من نفسه أن أباح بهذا الخبر، بعد أن أفلت من فمه، عندما سألوه عن سبب تسمية هذه الغزوة بذات الرقاع.. وإنما كره ذلك وندم عليه بسبب أنه أفشا شيئا من عمله الذي احتسب أجره عند الله تعالى.
وهذا يدل، كما يقول الإمام النووي، على أنه يستحب للمسلم أن يخفي أعماله الصالحة وما قد يكابده من المشاقّ في طاعة الله تعالى، وأن لا يتعمّد إظهار شيء من ذلك إلا لمصلحة، مثل بيان حكم ذلك الشيء والتنبيه على الاقتداء به ونحو ذلك. وعلى مثل هذا يحمل ما وجد للسلف من الإخبار ببعض أعمالهم [57] .
ثانيا: الطريقة التي صلى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم جماعة مع أصحابه في هذه الغزوة، هي الأساس الذي قامت عليه مشروعية صلاة الخوف.
ولصلاة الخوف كيفيتان، إحداهما خاصة بأن يكون العدو في جهة القبلة، والثانية خاصة بأن يكون العدو في غير جهتها. والكيفية الثانية هي التي صلى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع. فقد حان وقت الصلاة، وأشتات العدو من حول المسلمين في أكثر من جهة القبلة وحدها، ويخشى أنهم يراقبون المسلمين من بعد، حتى إذا رأوهم أدبروا عنهم جميعا وانشغلوا بصلاتهم غدروا بهم وانحطوا فيهم بسيوفهم.
فبدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصلاة مع فرقة من أصحابه، وإخوانهم يراقبون العدو في جهاته المختلفة، حتى إذا أتمّ الرسول صلّى الله عليه وسلم من صلاته نصفها، أي ركعة واحدة، فارقه من كانوا يصلون خلفه وأسرعوا فأتموا الركعة الثانية وحدهم، والرسول واقف في صدر ركعته الثانية، ثم ذهبوا [57] انظر النووي على صحيح مسلم: 12/ 197 و 198
اسم الکتاب : فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة المؤلف : البوطي، محمد سعيد رمضان الجزء : 1 صفحة : 199