عن الآباء والاجداد، وما هي إلا فترة يسيرة حتى ماتت الحركة الدينية اليهودية ميتة طبيعية، مخلّفة العرب كما كانوا من قبل. وعقبت ذلك موجة اصلاح أخرى. فقد شرع المبشرون النصارى يتدفقون على بلاد العرب في القرن الثالث للميلاد، واستقروا في نجران. وإنما عزّزت نشاطاتهم التبشيرية تعزيزا كبيرا بالسلطان الزمني الذي كان للدولتين النصرانيتين المجاورتين لبلاد العرب: الدولة الحبشية في الغرب، والامبراطورية الرومانية في الشمال. ومن ثم اعتنقت مقاطعة نجران كلها، الواقعة بين عسير وصنعاء، الديانة النصرانية. ولكن النصرانية لم توفّق إلى التقدّم إلى أبعد من ذلك. فباستثناء قلة قليلة من المتنصّرين المنتثرين ههنا وههناك لم تحدث النصرانية غير أثر ضئيل في بلاد العرب نفسها. وهكذا انتهت إلى اخفاق كليّ هذه المحاولة الثانية لاصلاح الجزيرة العربية.
أما الموجة الاصلاحية الثالثة التي انطلقت في بلاد العرب فكانت حركة داخلية. فقبيل بزوغ الاسلام مباشرة، انبثقت «مدرسة فكرية» جديدة عرف أصحابها ب «الحنفاء» . لقد ازدرت هذه العصبة الصغيرة الوثنية، ولكنها لم تكن أكثر ميلا إلى اليهودية أو النصرانية.
لقد عبد أفرادها إلها واحدا، بيد أنهم لم يجشّموا أنفسهم عناء العمل على اصلاح الحياة الاجتماعية في بلادهم. وليس من ريب في أن كراهية «الحنفاء» لعبادة الاوثان حملت بعضهم على الدخول في حظيرة النصرانية، من مثل ورقة بن نوفل، ابن عم خديجة، وعبد الله بن جحش، ابن اخي حمزة، ولكن عدد هؤلاء كان صغيرا لا يستحق الذكر. إن كثرة الحنفاء الكاثرة لم تجد ما يرضي نفوسها في النصرانية واليهودية على السواء. وأبرز هؤلاء زيد بن عمرو بن نفيل، عمّ عمر، وامية [ابن ابي الصلت] الشاعر الشهير وزعيم الطائف. ولم تكن لدى أيّ منهم حماسة شديدة لنشر معتقداتهم الجديدة، ومع ذلك فأنهم لم يكتموا