ولا ريب في انه لم يكن في الامكان اختيار فرصة أفضل لأعلان ذلك النبأ الخطير السعيد، نبأ إكمال الدين. فقد كان ذلك المكان هو الموطن الذي لم يشهد قط، في تاريخ العالم كله، أيما صراع زمنيّ أو أيما سفك للدماء. وكانت هذه هي الجماعة التي التقت هناك لتمجيد الاله ليس غير، قاطعة- مؤقّتا- كل صلة لها بالحياة الدنيوية. وكان ذلك اجتماعا هيمنت فيه المساواة الانسانية، وانعدم كل تمييز بين الملك والفلاح، حيث التقى القوم كلهم كأخوان في الانسانية، ليرفعوا آيات الولاء لربهم الذي في السماء، وحيث كان كل فؤاد مفعما بمخافة الله.
وكانت الخطبة التي ألقاها الرسول في تلك المناسبة رائعة حقا. كان ممتطيا ناقته، وكان الناس قد تحلقوا حوله في منى. فكانت الكلمات المنطلقة من بين شفتيه تردّد عاليا لكي تبلغ أقصى أطراف ذلك الاجتماع الحاشد. وكانت جميع القبائل والعشائر البدوية ممثلة في ذلك الموقف، وهكذا حملت الرسالة إلى كل رجا من ارجاء الجزيرة. وكان هذا هو مستهلّها:
«أيها الناس! اسمعوا قولي فأني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.» وواضح ان الرسول كان قد استشعر دنوّ أجله من خلال الآية التي أعلنت إكمال الدين والتي أنزلت عليه في التاسع من ذي الحجة، في عرفات. لقد بعث- وهو يعلم ذلك علم اليقين- ابتغاء إكمال الشريعة الالهية. فلا عجب ان نجده يستنتج- حين أعلم ان الأكمال قد حقّق- ان وجوده على الارض لم يعد ضروريا.
وبعد هذا الاستهلال مضى الرسول يقول:
«أيها الناس، هل تدرون أي يوم هذا؟ إنه يوم النحر. هل تدرون أي شهر هذا؟ انه الشهر الحرام. هل تدرون أي بلد هذا؟
انه البلد الحرام. إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى ان تلقوا ربكم