responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين المؤلف : القاسمي، جمال الدين    الجزء : 1  صفحة : 264
غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِأَحْوَالِ الْقَلْبِ، وَقَدْ يَظُنُّ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةَ تَتَرَجَّحُ بِهَا كِفَّةُ حَسَنَاتِهِ وَهَيْهَاتَ، وَذَرَّةٌ مِنْ ذِي تَقْوَى وَخُلُقٌ وَاحِدٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَكْيَاسِ أَفْضَلُ مِنْ أَمْثَالِ الْجِبَالِ عَمَلًا بِالْجَوَارِحِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو هَذَا الْمَغْرُورُ مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ مَعَ النَّاسِ وَخُشُونَتِهِ وَتَلَوُّثِ بَاطِنِهِ بِالرِّيَاءِ وَحُبِّ الثَّنَاءِ. فَإِذَا قِيلَ لَهُ: أَنْتَ مِنْ أَوْتَادِ الْأَرْضِ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَحْبَابِهِ فَرِحَ الْمَغْرُورُ بِذَلِكَ وَصَدَّقَ بِهِ، وَظَنَّ أَنَّ تَزْكِيَةَ النَّاسِ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا يَدْرِي أَنَّ ذَلِكَ لِجَهْلِ النَّاسِ بِخَبَائِثِ بَاطِنِهِ.
وَفِرْقَةٌ حَرَصَتْ عَلَى النَّوَافِلِ وَلَمْ يَعْظُمِ اعْتِدَادُهَا بِالْفَرَائِضِ، تَرَى أَحَدَهُمْ يَفْرَحُ بِصَلَاةِ الضُّحَى وَبِصَلَاةِ اللَّيْلِ وَأَمْثَالِ هَذِهِ النَّوَافِلِ، وَلَا يَجِدُ لِلْفَرِيضَةِ لَذَّةً، وَلَا يَشْتَدُّ حِرْصُهُ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَيَنْسَى قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ: «مَا تَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ إِلَيَّ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ» .

غُرُورُ الْمُتَصَوِّفَةِ وَهُمْ فِرَقٌ كَثِيرَةٌ:
فَفِرْقَةٌ مِنْهُمُ اغْتَرُّوا بِالزِّيِّ وَالْهَيْئَةِ وَالْمَنْطِقِ، فَيَجْلِسُونَ عَلَى السَّجَّادَاتِ مَعَ إِطْرَاقِ الرَّأْسِ وَإِدْخَالِهِ فِي الْجَيْبِ كَالْمُتَفَكِّرِ، وَفِي تَنَفُّسِ الصُّعَدَاءِ، وَفِي خَفْضِ الصَّوْتِ فِي الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُتْعِبُوا أَنْفُسَهُمْ قَطُّ فِي الْمُجَاهَدَةِ وَالرِّيَاضَةِ وَمُرَاقَبَةِ الْقَلْبِ وَتَطْهِيرِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ مِنَ الْآثَامِ الْخَفِيَّةِ وَالْجَلِيَّةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَوَائِلِ مَنَازِلِ التَّصَوُّفِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَحُومُوا قَطُّ حَوْلَهَا وَلَمْ يَسُومُوا أَنْفُسَهُمْ شَيْئًا مِنْهَا.
وَفِرْقَةٌ ادَّعَتْ عِلْمَ الْمَعْرِفَةِ وَمُشَاهَدَةَ الْحَقِّ وَمُجَاوَزَةَ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ وَالْمُلَازَمَةَ فِي عَيْنِ الشُّهُودِ وَالْوُصُولَ إِلَى الْقُرْبِ، وَلَا يَعْرِفُ هَذِهِ الْأُمُورَ إِلَّا بِالْأَسَامِي وَالْأَلْفَاظِ ; لِأَنَّهُ تَلَقَّفَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّامَّاتِ كَلِمَاتٍ فَهُوَ يُرَدِّدُهَا، وَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ أَعْلَى مِنْ عِلْمِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، فَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى الْفُقَهَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ وَأَصْنَافِ الْعُلَمَاءِ بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ فَضْلًا عَنِ الْعَوَامِّ، حَتَّى إِنَّ الْفَلَّاحَ لَيَتْرُكُ فِلَاحَتَهُ وَالْحَائِكَ يَتْرُكُ حِيَاكَتَهُ وَيُلَازِمُهُمْ وَيَتَلَقَّفُ مِنْهُمْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الْمُزَيَّفَةَ فَيُرَدِّدُهَا كَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَنِ الْوَحْيِ وَيُخْبِرُ عَنْ سِرِّ الْأَسْرَارِ، وَيَسْتَحْقِرُ بِذَلِكَ جَمِيعَ الْعِبَادِ وَالْعُلَمَاءِ وَيَقُولُ: «إِنَّهُمْ عَنِ اللَّهِ مَحْجُوبُونَ» ، وَيَدَّعِي لِنَفْسِهِ الْوُصُولَ إِلَى الْحَقِّ وَأَنَّهُ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَعِنْدَ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ مِنَ الْحَمْقَى الْجَاهِلِينَ، لَمْ يُحْكِمْ قَطُّ عِلْمًا، وَلَمْ يُهَذِّبْ خُلُقًا، وَلَمْ يُرَتِّبْ عَمَلًا، وَلَمْ يُرَاقِبْ قَلْبًا سِوَى اتِّبَاعِ الْهَوَى وَتَلَقُّفِ الْهَذَيَانِ وَحِفْظِهِ.
وَفِرْقَةٌ وَقَعَتْ فِي الْإِبَاحَةِ وَطَوَوْا بِسَاطَ الشَّرْعِ وَرَفَضُوا الْأَحْكَامَ وَسَوَّوْا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ مُسْتَغْنٍ عَنْ عَمَلِي فَلِمَ أُتْعِبُ نَفْسِي» ؟ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: «الْأَعْمَالُ بِالْجَوَارِحِ لَا وَزْنَ لَهَا وَإِنَّمَا النَّظَرُ إِلَى الْقُلُوبِ، وَقُلُوبُنَا وَالِهَةٌ بِحُبِّ اللَّهِ وَوَاصِلَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا نَخُوضُ فِي الدُّنْيَا بِأَبْدَانِنَا وَقُلُوبُنَا عَاكِفَةٌ فِي الْحَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَنَحْنُ مَعَ الشَّهَوَاتِ بِالظَّوَاهِرِ لَا بِالْقُلُوبِ» وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ قَدْ تَرَقَّوْا عَنْ رُتْبَةِ الْعَوَامِّ وَاسْتَغْنَوْا عَنْ تَهْذِيبِ النَّفْسِ بِالْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَأَنَّ الشَّهَوَاتِ لَا تَصُدُّهُمْ عَنْ طُرُقِ اللَّهِ لِقُوَّتِهِمْ فِيهَا. وَكُلُّ هَذَا مِنْ

اسم الکتاب : موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين المؤلف : القاسمي، جمال الدين    الجزء : 1  صفحة : 264
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست