responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين المؤلف : القاسمي، جمال الدين    الجزء : 1  صفحة : 215
بَيَانُ الدَّوَاءِ الَّذِي يَنْفِي مَرَضَ الْحَسَدِ عَنِ الْقَلْبِ:
اعْلَمْ أَنَّ الْحَسَدَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْعَظِيمَةِ لِلْقُلُوبِ، وَلَا تُدَاوَى أَمْرَاضُ الْقُلُوبِ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ؛ وَالْعِلْمُ النَّافِعُ لِمَرَضِ الْحَسَدِ هُوَ أَنْ تَعْرِفَ تَحْقِيقًا أَنَّ الْحَسَدَ ضَرَرٌ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَحْسُودِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، بَلْ يَنْتَفِعُ بِهِ فِيهِمَا. وَمَهْمَا عَرَفْتَ هَذَا عَنْ بَصِيرَةٍ وَلَمْ تَكُنْ عَدُوَّ نَفْسِكَ وَصَدِيقَ عَدُوِّكَ - فَارَقْتَ الْحَسَدَ لَا مَحَالَةَ.
أَمَّا كَوْنُهُ ضَرَرًا عَلَيْكَ فِي الدِّينِ فَهُوَ أَنَّكَ بِالْحَسَدِ سَخِطْتَ قَضَاءَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَرِهْتَ نِعْمَتَهُ الَّتِي قَسَّمَهَا بَيْنَ عِبَادِهِ، وَعَدْلَهُ الَّذِي أَقَامَهُ فِي مُلْكِهِ بِخَفِيِّ حِكْمَتِهِ، فَاسْتَنْكَرْتَ ذَلِكَ وَاسْتَبْشَعْتَهُ، وَهَذِهِ جِنَايَةٌ فِي حَدَقَةِ التَّوْحِيدِ، وَقَذًى فِي عَيْنِ الْإِيمَانِ، وَنَاهِيكَ بِهِمَا جِنَايَةً عَلَى الدِّينِ، وَقَدِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَنَّكَ فَارَقْتَ أَوْلِيَاءَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ فِي حُبِّهِمُ الْخَيْرَ لِعِبَادِهِ تَعَالَى، وَشَارَكْتَ إِبْلِيسَ وَالْكُفَّارَ فِي مَحَبَّتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ الْبَلَايَا وَزَوَالَ النِّعَمِ، وَهَذِهِ خَبَائِثُ فِي الْقَلْبِ تَأْكُلُ حَسَنَاتِ الْقَلْبِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ ضَرَرًا فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ أَنَّكَ تَتَأَلَّمُ بِحَسَدِكَ فِي الدُّنْيَا، أَوْ تَتَعَذَّبُ بِهِ، وَلَا تَزَالُ فِي كَمَدٍ وَغَمٍّ، إِذْ أَعْدَاؤُكَ لَا يُخْلِيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نِعَمٍ يُفِيضُهَا عَلَيْهِمْ، فَلَا تَزَالُ تَتَعَذَّبُ بِكُلِّ نِعْمَةٍ تَرَاهَا، وَتَتَأَلَّمُ بِكُلِّ بَلِيَّةٍ تَنْصَرِفُ عَنْهُمْ، فَتَبْقَى مَغْمُومًا ضَيِّقَ الصَّدْرِ، فَقَدْ نَزَلَ بِكَ مَا يَشْتَهِيهِ الْأَعْدَاءُ لَكَ وَتَشْتَهِيهِ لِأَعْدَائِكَ، فَقَدْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمِحْنَةَ لِعَدُوِّكَ فَتَنَجَّزَتْ فِي الْحَالِ مِحْنَتُكَ وَغَمُّكَ نَقْدًا، وَلَا تَزُولُ النِّعْمَةُ عَنِ الْمَحْسُودِ بِحَسَدِكَ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ تُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ لَكَانَ مُقْتَضَى الْفِطْنَةِ - إِنْ كُنْتَ عَاقِلًا - أَنْ تَحْذَرَ مِنَ الْحَسَدِ، لِمَا فِيهِ مِنْ أَلَمِ الْقَلْبِ وَمَسَاءَتِهِ مَعَ عَدَمِ النَّفْعِ، فَكَيْفَ وَأَنْتَ عَالِمٌ بِمَا فِي الْحَسَدِ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ فِي الْآخِرَةِ؟ فَمَا أَعْجَبَ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِسَخَطِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَنَالُهُ، بَلْ مَعَ ضَرَرٍ يَحْتَمِلُهُ، وَأَلَمٍ يُقَاسِيهِ، فَيُهْلِكُ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ مِنْ غَيْرِ جَدْوَى وَلَا فَائِدَةٍ. وَأَمَّا أَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمَحْسُودِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَوَاضِحٌ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ لَا تَزُولُ عَنْهُ بِحَسَدِكَ. وَأَمَّا أَنَّ الْمَحْسُودَ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَوَاضِحٌ، أَمَّا مَنْفَعَتُهُ فِي الدِّينِ فَهُوَ أَنَّهُ مَظْلُومٌ مِنْ جِهَتِكَ، لَا سِيَّمَا إِذَا أَخْرَجَكَ الْحَسَدُ إِلَى الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ بِالْغِيبَةِ وَالْقَدْحِ فِيهِ، وَهَتْكِ سِتْرِهِ، وَذِكْرِ مَسَاوِئِهِ، فَهَذِهِ هَدَايَا تُهْدِيهَا إِلَيْهِ، إِذْ تُهْدِي إِلَيْهِ حَسَنَاتِكَ، حَتَّى تَلْقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُفْلِسًا مَحْرُومًا كَمَا حُرِمْتَ فِي الدُّنْيَا عَنِ النِّعْمَةِ.
فَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا عَرَفْتَ أَنَّكَ عَدُوُّ نَفْسِكَ وَصَدِيقُ عَدُوِّكَ؛ إِذْ تَعَاطَيْتَ مَا تَضَرَّرْتَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَانْتَفَعَ بِهِ عَدُوُّكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَصِرْتَ مَذْمُومًا عِنْدَ الْخَالِقِ وَالْخَلَائِقِ، شَقِيًّا فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، وَنِعْمَةُ الْمَحْسُودِ دَائِمَةٌ، شِئْتَ أَمْ أَبَيْتَ بَاقِيَةٌ. وَمَنْ تَفَكَّرَ بِهَذَا بِذِهْنٍ صَافٍ وَقَلْبٍ حَاضِرٍ، انْطَفَأَتْ نَارُ الْحَسَدِ مِنْ قَلْبِهِ.
وَأَمَّا الْعَمَلُ النَّافِعُ فِيهِ فَهُوَ أَنْ يُكَلِّفَ نَفْسَهُ نَقِيضَ مَا يَتَقَاضَاهُ الْحَسَدُ، وَذَلِكَ بِالتَّوَاضُعِ لِلْمَحْسُودِ، وَالثَّنَاءِ، وَالْمَدْحِ، وَإِظْهَارِ السُّرُورِ بِالنِّعْمَةِ، فَتَعُودُ الْقُلُوبُ إِلَى التَّآلُفِ وَالتَّحَابِّ، وَبِذَلِكَ تَسْتَرِيحُ الْقُلُوبُ مِنْ أَلَمِ الْحَسَدِ وَغَمِّ التَّبَاغُضِ. فَهَذِهِ هِيَ أَدْوِيَةُ الْحَسَدِ، وَهِيَ نَافِعَةٌ جِدًّا، إِلَّا أَنَّهَا مُرَّةٌ عَلَى الْقُلُوبِ جِدًّا، وَلَكِنَّ النَّفْعَ فِي الدَّوَاءِ الْمُرِّ، فَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى مَرَارَةِ الدَّوَاءِ لَمْ يَنَلْ حَلَاوَةَ الشِّفَاءِ، وَإِنَّمَا تَهُونُ مَرَارَةُ هَذَا الدَّوَاءِ - أَعْنِي التَّوَاضُعَ لِلْأَعْدَاءِ وَالتَّقَرُّبَ إِلَيْهِمْ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ - بِقُوَّةِ الْعِلْمِ بِالْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَقُوَّةِ الرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِ الرِّضَاءِ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.

اسم الکتاب : موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين المؤلف : القاسمي، جمال الدين    الجزء : 1  صفحة : 215
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست