اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 440
يحتاج إلى علم فقال ويحك اسكت صبره على الفقر ومقاساته للضرّ فيه خير من كثير من العلم ثم قال هؤلاء خير منا بكثير وأقول إن من فضل حال الغنى على الفقر فإنه لم يذق مرارة الفقر ولا حلاوته فهو غرّ بشدته فاقد لحلاوته لأنه لو ذاق مرارته من الضرّ والهمّ لفضله ولوأذيق حلاوته من الزهد والرضا لما فضل عليه.
وقد روينا في الخبر: يقول إبليس لم ينج الغني مني من إحدى ثلاث خصال؛ أن أحبب إليه المال فيكتسبه من غير حقّه أو يضعه في غير حقّه أو يمنعه من حقّه، فلولم يعلم العدو أن الفقر من أفضل الأحوال ما قعد على طرقه وقد قال لأقعدن لهم صراطك المستقيم فأخبر الخبر عنه فقال: الشيطان يعدكم الفقر أي يخوفكم به، فجاء الفقير الصادق فسلك الطريق المستقيم إلى الآخرة واطرح تخويف العدّو بحول الله وقوّته وقيل: الأغنياء المغتبطون بغناهم تخويف العدوّ فجاء بنو الفقر فحلق بهم مثل السوء، من ذلك قوله: (إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون) آل عمران: 175 فقبلوا تخويف الشيطان وخالفوا ندب الرحمن فكانوا كمن قيل فيهم: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه) الحج: 11، الآية فلو لم يكن من فضل الزاهدين إلا أنهم توسطوا الطريق الذي هرب الناس منه وأمنوا بالتوكّل على الله والرضا عنه ماخافه أبناء الدنيا لكفاهم.
ذكر ماهية الدنيا
وكيفية الزهد فيها وتفاوت الزهاد في مقاماتهم،
ثم إن الدنيا هي نصيب كل عبد من الهوى وما دنا من قلبه من الشهوات، فمن زهد في نصيبه وملكه من هواه المذموم فهذا هو الزهد المفترض، ومن زهد في نصيبه من المباح وهو فضول الحاجة من كّل شيء، فهذا هو الزهد المفضل يرجع ذلك إلى حظوظ جوارحه التي هي أبواب الدنيا منه وطرقها إليه، فالزهد في محرّماتها هو زهد المسلمين به يحسن إسلامهم، والزهد في شبهاتها هو زهد الورعين به يكمل إيمانهم، والزهد في حلالها من فضل حاجات النفس هو زهد الزاهدين به يصفو يقنيهم، وروينا في حديث عمرو بن ميمون عن الزبير بن العوّام أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: يازبير اجهد نفسك عند نزول الشهوات والشبهات بالورع الصادق عن محارم الله عزّ وجلّ تدخل الجنة بغير حساب، وكان سهل يقول في فضائل الزهد وأعلى مقاماته: لا يتمّ زهد عبد حتى يزهد في هذه الثلاث؛ في الدرهم الذي يريد أن ينفقه في أبواب البّر يتقرب بذلك إلى الله تعالى، ويزهد في الثياب التي تستر بدنه في الطاعات، ويزهد في قوته الذي يستعين به على العبادة، وإنما قال هذا لأن عنده حقيقة الزهد من أفضل المقامات كلاً لأنه كان يقول: يعطى الزاهد جميع ثواب العلماء والعباد، ثم يقسم على المؤمنين ثواب أعماله، وقال: لا يوافي القيامة أحد أفضل من ذي زهد وعلم ورع، وقال أيضاً: لا ينال الزهد إلا بالخوف لأن من خاف ترك فجعل الزهد مقاماً في الخوف رفعه مزيداً لهم عليه.
وقد روى مسروق عن ابن مسعود: ركعتان من زاهد قلبه خير له وأحبّ إلى اللّّه
اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 440