اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 292
وكان بشر بن الحارث يقول: لأن أصحب فتى أحبّ إليّ من أن أصحب قارئاً فإياك وصحبة القرّاء فإنهم يذمّون غير مذموم وإن تركت الصلاة معهم في جماعة تشاهدوا عليك، كل ذلك لأنهم يجاوزون الحد في الشيء ويسرعون الإنكار إلى كل شيء لغلبة الجهل عليهم وقلة مجالستهم للعلماء ومعاناتهم للعلم وإنهم موصوفون بدقائق الرياء والتصنع للعامة فينكرون غير منكر ويتعصبون بالبغضة والهجر في الشيء اليسير الذي قد يغتفر مثله وهم غير موصوفين بمحاسن الأخلاق ولا موسومين بالبشاشة والانطلاق إذ فيهم كزازة وتغليظ على الناس ولزازة وحنق على الأغنياء حتى كأنهم يأكلون أرزاقهم وكأنهم يعملون العبادة لهم وفيهم كثرة مقت لأهل البشر والطلاقة، فلذلك قال بعضهم: الشريف إذا تقرّى تواضع والوضيع إن تقرّى تكبر، وقال آخر السفلة: إذا تقرّى أكثر الأمر بالمعروف واعترض على جيرانه في كل شيء يعني أكثر الأمر بالمعروف ليعرف به، فمن أجل ذلك رفضهم العلماء وذمّهم الحكماء لأن العلم يبسط ويوسع وتكون معه الأخلاق الحسنة والآداب والمروءات الواسعة والعالم يضع الأشياء في مواضعها من الناس ولا يجاوز بها ولا بهم المقادير ويستخرج لهم المعاذير، ومن صفة العلماء الانقباض في بسط خلق، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله الانقباض على الناس مكسبة لعداوتهم فكن بين المنقبض والمنبسط.
وفي الخبر: إنكم لا تسعون الناس بأموالكم فليسعهم منكم وجه طلق وخلق حسن، وفي لفظ آخر: وبشر وبشاشة وهذا كله معدوم من القرّاء ولا يعرفونه، وقد جعل الله تعالى لكل شيء قدراً فمن تعدّى حدّ الشيء فقد أفسده، وقال بعض السلف: قليل التواضع يكفي من كثير العمل وقليل الورع يكفي من كثير العلم، ومن أخلاق السلف مما تهاون به الخلف أنهم كانوا يعدّون من النفاق أن يتكلم الرجل فيمن يكلمه أو يكلم من تكلم فيه لأنهم كانوا إذا كلموا أحداً أو سلّموا عليه سلمت له قلوبهم ولم يتكلّموا فيه وإذا تكلّموا في أحد لبدعته أو ظهور فسقه لم يكلموه وكانوا إذا مدحوا أحداً بقول لم يذمّوه بفعل وإذا ذمّوا واحداً يفعل يمدحوه بقول لأن في ذلك لسانين واختلاف وجهين واختلاف سرّ وعلانيّة وكانوا يقولون معنى سلام عليك إذا لقيته أي سلمت مني أن أغتابك وأذمك فكان اختلاف هذا عندهم من أبواب النفاق.
وروينا عن رسول اللّّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شرّ الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه وفي حديث آخر: من كان ذا لسانين في الدنيا جعل اللّّه له يوم القيامة لسانين من نار، وكان بعضهم يقول: ما ذكر عندي إنسان قط إلا مثلته جالساً فقلت في غيبته بما يجب أن يسمع، وقال آخر: ما ذكر عندي رجل إلا تصوّرت في نفسي مثاله فكل ما أحب أن يقال لي قلته له، وقال بعض السلف: قليل التواضع يكفي عن كثير العمل وقليل الورع يكفي عن كثير العلم، فهذه كانت صفات المسلمين الذي يسلم الناس على أيديهم
اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 292