اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 236
ذكر بيان تفضيل علوم الصمت وطريق الورعين في العلوم
وروينا في الخبر: العلم ثلاثة، كتاب ناطق، وسنة قائمة، ولا أدري، وعن الشعبي أنه قال: لا أدري، نصف العلم يعني أنه من الورع وكان الثوري رضي الله عنه يقول: إنما العلم الرخصة من ثقة فأما التشديد فكل أحد يحسنه يعني أن التورع والتوقف في الأمور هو سيرة المؤمنين وإن لم يكونوا علماء لأن الورع هو الجبن عن الإقدام والهجوم على الشبهات والوقوف عند المشكلات بسكون أو سكوت، واليقين هو الإقدام على الأشياء ببصيرة وتمكين والقطع بالأمر على علم وخبر فهذا صفة العلماء الموثوق بعلمهم لا يحسنه سواهم كما قال علي عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية وقدمه أمامه يوم الجمل وجعل يقول له: أقدم أقدم ومحمد يتأخر وهو يركزه بقائم رمحه، فالتفت إليه محمد ابنه فقال: هذا والله الفتنة المظلمة العمياء فوكزه عليّ برمحه، ثم قال: تقدم لا أم لك أتكون فتنة أبوك قائدها وسائقها والمرء إذا قال: لا أدري فقد عمل بعلمه وقام بحاله فله من الثواب بمنزلة من درى فقام بحاله وعمل بعلمه فأظهره، فلذلك كان قول لا أدري نصف العلم ولأن حسن من سكت لأجل الله تعالى تورعاً كحسن من نطق لأجله بالعلم تبرعاً، وقال علي بن الحسين ومحمد بن عجلان: إذا أخطأ العالم قول لا أدري أصيبت مقالته، وقاله مالك والشافعي بعدهما واعلم أن مثل العلم والجهل في تفاوت الناس فيهما مثل الجنون والعقل والمجانين طبقات، كالعقلاء طبقات، وكذلك الجهال طبقات كالعلماء فخصوص الجهال يشبهون عموم العلماء فهم يشتبهون على العامة حتى يحسبوهم علماء وهم مكشوفون عند العلماء بالله تعالى وكذلك العارفون يشتبهون على عموم العلماء وهم ظاهرون للموقنين، وقال بعض العلماء: العلم علمان، علم الأمراء وعلم المتقين، فأما علم الأمراء فهو علم القضايا وأما علم المتقين فهو علم اليقين والمعرفة.
وقد قال الله سبحانه في وصف علم المؤمنين وذكر علم الإيمان: (يَرْفَعِ الله الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذينَ أُوتُوا العْلْمَ دَرَجَاتٍ) المجادلة: 11، فجعل المؤمنين علماء فدل على أن العلم والإيمان لا يفترقان والواو هنا عند أهل اللغة للمدح لاللجمع، العرب إذا مدحت بالأوصاف أدخلت الواو للمبالغة فقالوا: فلان العاقل والعالم والأديب، ومثل هذا قوله تعالى: (لكنِ الراسخون في الْعِلْمِ مِنْهُمْ والْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِليْكَ وما أُنْزِلَ مِنْ قبْلِكَ والْمُقيمينَ الصَّلاةَ والْمؤْتُونَ الزَّكوة) النساء: 162 كله نعت، فالمؤمنون هم الراسخون في العلم وهم المقيمون والمؤتون أيضاً وكلهم وصف الراسخون في العلم ولذلك انتصب قوله والمقيمين الصلاة لأنه مدح والعرب تنصب وترفع بالمدح وبمعناه قوله تعالى: (والرَّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بهِ) آل عمران: 7، فوصف العلماء بالإيمان كما وصف المؤمنين بالعلم وكذلك قوله تعالى: (وقالَ الَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ والإيمانَ) الروم: 56، ومن هذا حديث أنس عن
اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 236