اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 135
وصار له في كل ساعة من نهاره وقت وقد عمر يومه كله بالذكر، ولمثل هذا قيل: نوم الصائم عبادة ونفسه تسبيح وقد قرن اللَّه عزَّ وجلّ الاستماع إلى الباطل والقول بالإثم إلى أكل الحرام ولولا أن في المسموعات والمقولات حراماً على المستمع والإصغاء إليه وحراماً على القائل النطق به ما قرنهما إملي أكل الحرام وهو من الكبائر، فقال تعالى: سماعون للكذب أكّالون للسحت، وقال سبحانه وتعالى: (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانُّيون وَالأَحْبَارُ عَنْ قَولِهِمُ الإثَمْ وَأَكلِهِمُ السُّحْتَ) المائدة: 36، فالعبد الحافظ لحدود اللَّه عزّ وجلّ إن أفطر بالأكل والجماع فهو صائم عند اللَّه في الفضل للأتباع ومن صام عن الأكل والجماع وتعدى الحدود وأضاع فهو مفطر عند اللَّه عزّ وجلّ صائم عند نفسه، لأن ما أضاع أحب إلى اللَّه عزّ وجلّ وأكثر ممَّا حفظ، ومثل من صام من الأكل وأفطر بمخالفة الأمر بسائر الجوارح مثل من مسح كل عضو من أعضائه في وضوئه ثلاثاً ثلاثاً ثم صلَّى فقد وافق الفضل في العدد إلا أنه تارك للفرض من الغسل فصلاته مردودة عليه لجهله وهو مغتر بفعله ومثل من أفطر بالأكل وصام بجوارحه عن النهي مثل من غسل كل عضو من أعضائه في وضوئه مرة مرة فهو تارك للفضل في العدد إلا أنه مكمل للفرض محسن في العمل فصلاته متقبلة لأحكامه للأصل ولعمله بالعلم، ومثل من صام من الأكل والجماع وحفظ جوارحه عن الآثام كمثل من غسل كل عضو ثلاثاً ثلاثاً فقد تمم الفرض وأحسن بتكملة الفضل فهذا كما قال تعالى تماماً على الذي أحسن، وكما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوضوء، كذلك هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء أبي إبراهيم عليه السلام وقد قال اللَّه تعالى: (مِلَّةَ أَبيكُمْ إبْراهيمَ) الحج: 87 أي عليكم بها فائتموا واقتدوا به فيها، وقد روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر، وجاء في الخبر أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأجهدهما الجوع والعطش في آخر النهار حتى كادتا أن تتلفا فبعثتا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستأذناه في الإفطار فأرسل إليهما قدحاً وقال: قل لهما قيئا فيه ما أكلتما قال:
فقاءت إحداهما نصفه دماً عبيطاً ولحماً عريضاً وقاءت الأخرى مثل ذلك حتى ملأتاه، فعجب الناس من ذلك فَقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هاتان صامتا عما أحل اللَّه عزَّ وجلَّ لهما وأفطرتا على ما حرم اللَّه عزّ وجلَّ عليهما قعدت إحداهما الى الأخرى فجعلا يغتابان الناس فهذا ما أكلا من لحومهم، وكان أبو الدرداء يقول: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم يعيبون صوم الحمقى وسهرهم ولذرة من ذي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغترين وكل محظور عليك أن تتفوّه به فمحظور عليك أن تستمع إليه وكل حرام عليك أن تفعله
اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 135