اسم الکتاب : الذريعة الى مكارم الشريعة المؤلف : الراغب الأصفهاني الجزء : 1 صفحة : 155
والمعقولة، ويعرف أثر الصنعة فيها، وأنها محدثة وأن محدثها ليس إيَّاها ولا مثلًا لها، بل هو الذي يصح ارتفاع كلها مع بقائه ولا يصح بقاؤها وارتفاعه، وبهذا النظر قال الصديق - رضي الله عنه -: " سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلًا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته "،
بل لهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في ذاته ".
ولما كان معرفة العالم كله تصعب على الإنسان الواحد، لقصور أفهام بعضهم
عنها، واشتغال بعضهم بالضرورات التي يعرفها منهم، جعل لكل إنسان من بدنه ونفسه عالماً صغيرًا، أوجد فيه مثال كل ما هو موجود في العالم الكبير، ليجري ذلك من العالم مجرى مختصر من الكتاب البسيط، يكون مع كل أحد نسخة يتأملها في الحضر والسفر، والليل والنهار، فإن نشط وتفرغ للتوسع في العلم نظر في الكتاب الكبير الذي هو العالم، فيطلع منه على الكون، ليغزر علمه، ويتسع فهمه، وإلا فليقنع بالمختصر الذي معه، ولهذا قال تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
ولشرف متأملي ذلك قال تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ)
وقال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
فنبَّه بمدحهم حيث قالوا: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) أنهم عرفوا الغرض المقصود بخلقه، وذلك هو آخر الأبحاث، لأن الأبحاث أربعة: بحث عن وجود الشيء بهل هو، وبحث عن جنسه بما هو، وبحث عما يباين به غيره بأي شيء هو، وبحث عن الغرض بلم هو؟.
وهذه الأبحاث ينبني بعضها على بعض، فلا تصح معرفة الثاني إلا بمعرفة الأول، ولا معرفة الثالث إلا بمعرفة الثانىِ، ولا معرفة الرابع إلا بمعرفة الثالث. وقوله: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا) يقتضي أنهم عرفوا الأبحاث الأربعة، وإلا شهدوا بما لم يتحققوا، ومن شهد بما لم يتحقق كذب وإن كان ما يشهد به على ما شهد به، ألا ترى أن اللَّه تعالى كذب المنافقين حين قالوا: (إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللَّهِ)
وإن كان هو رسول اللَّه.
فدَّلت هذه الآية على أن البحث الذي يؤدي إلى معرفة حقائق الموجودات التي تتضمن معرفة اللٌه تعالى هو من العلوم الشريفة، بخلاف قول الصم البكم العمي الذين لم يجعل اللَّه لهم نورًا؛ حيث بدَّعوا من اشتغل بمعرفة ذلك.
اسم الکتاب : الذريعة الى مكارم الشريعة المؤلف : الراغب الأصفهاني الجزء : 1 صفحة : 155