responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : أدب الدنيا والدين المؤلف : الماوردي    الجزء : 1  صفحة : 218
وَهَذِهِ الْحَالُ إنَّمَا تَصِحُّ لِمَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ فَأَطَاعَتْهُ، وَصَدَّقَهَا فَأَجَابَتْهُ، حَتَّى لَانَ قِيَادُهَا، وَهَانَ عِنَادُهَا.
وَعَلِمَتْ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِالْقَلِيلِ لَمْ يَقْنَعْ بِالْكَثِيرِ، كَمَا كَتَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يَا أَخِي، مَنْ اسْتَغْنَى بِاَللَّهِ اكْتَفَى، وَمَنْ انْقَطَعَ إلَى غَيْرِهِ تَعَنَّى، وَمَنْ كَانَ مِنْ قَلِيلِ الدُّنْيَا لَا يَشْبَعُ، لَمْ يُغْنِهِ مِنْهَا كَثْرَةُ مَا يَجْمَعُ، فَعَلَيْك مِنْهَا بِالْكَفَافِ، وَأَلْزَمْ نَفْسَك الْعَفَافِ، وَإِيَّاكَ وَجَمْعَ الْفُضُولِ، فَإِنَّ حِسَابَهُ يَطُولُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: هَيْهَاتَ مِنْك الْغِنَى إنْ لَمْ يُقْنِعْك مَا حَوَيْت.
فَأَمَّا مَنْ أَعْرَضَتْ نَفْسُهُ عَنْ قَبُولِ نُصْحِهِ، وَجَمَحَتْ بِهِ عَنْ قَنَاعَةِ زُهْدِهِ، فَلَيْسَ إلَى إكْرَاهِهَا سَبِيلٌ وَلَا لِلْحَمْلِ عَلَيْهَا وَجْهٌ إلَّا بِالرِّيَاضَةِ وَالْمُرُوءَةِ. وَأَنْ يَسْتَنْزِلَهَا إلَى الْيَسِيرِ الَّذِي لَا تَنْفِرُ مِنْهُ فَإِذَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ أَنْزَلَهَا إلَى مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ؛ لِتَنْتَهِيَ بِالتَّدْرِيجِ إلَى الْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ وَتَسْتَقِرُّ بِالرِّيَاضَةِ وَالتَّمْرِينِ عَلَى الْحَالِ الْمَحْبُوبَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْحُكَمَاءِ: إنَّ الْمَكْرُوهَ يَسْهُلُ بِالتَّمْرِينِ. فَهَذَا حُكْمُ مَا فِي الْأَمْرِ الثَّانِي مِنْ التَّقْصِيرِ عَنْ طَلَبِ الْكِفَايَةِ.

وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّالِثُ: فَهُوَ أَنْ لَا يَقْنَعَ بِالْكِفَايَةِ وَيَطْلُبَ الزِّيَادَةَ وَالْكَثْرَةَ، فَقَدْ يَدْعُو إلَى ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْبَابٍ: أَحَدُهَا: مُنَازَعَةُ الشَّهَوَاتِ الَّتِي لَا تُنَالُ إلَّا بِزِيَادَةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ الْمَادَّةِ، فَإِذَا نَازَعَتْهُ الشَّهْوَةُ طَلَبَ مِنْ الْمَالِ مَا يُوَصِّلُهُ. وَلَيْسَ لِلشَّهَوَاتِ حَدٌّ مُتَنَاهٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى أَنَّ مَا يَطْلُبُهُ مِنْ الزِّيَادَةِ غَيْرُ مُتَنَاهٍ.
وَمَنْ لَمْ يَتَنَاهَ طَلَبُهُ اسْتَدَامَ كَدُّهُ وَتَعَبُهُ، وَمَنْ اسْتَدَامَ الْكَدَّ وَالتَّعَبَ لَمْ يَفِ الْتِذَاذَهُ بِنَيْلِ شَهَوَاتِهِ بِمَا يُعَانِيهِ مِنْ اسْتِدَامَةِ كَدِّهِ وَإِتْعَابِهِ، مَعَ مَا قَدْ لَزِمَهُ مِنْ ذَمِّ الِانْقِيَادِ لِمُغَالَبَةِ الشَّهَوَاتِ، وَالتَّعَرُّضِ لِاكْتِسَابِ التَّبِعَاتِ، حَتَّى يَصِيرَ كَالْبَهِيمَةِ الَّتِي قَدْ انْصَرَفَ طَلَبُهَا إلَى مَا تَدْعُو إلَيْهِ شَهْوَتُهَا، فَلَا تَنْزَجِرُ عَنْهُ بِعَقْلٍ وَلَا تَنْكَفُّ عَنْهُ بِقَنَاعَةٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَهْوَتِهِ، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ، وَإِذَا أَرَادَ بِهِ شَرًّا وَكَلَهُ إلَى نَفْسِهِ» . وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَإِنَّك إنْ أَعْطَيْتَ بَطْنَك هَمَّهُ ... وَفَرْجَك نَالَا مُنْتَهَى الذَّمِّ أَجْمَعَا

اسم الکتاب : أدب الدنيا والدين المؤلف : الماوردي    الجزء : 1  صفحة : 218
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست