responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : أدب الدنيا والدين المؤلف : الماوردي    الجزء : 1  صفحة : 164
عَلَيْهَا، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: رَغْبَةٌ وَفَاقَةٌ. فَأَمَّا الرَّغْبَةُ فَهِيَ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ الْإِنْسَانِ فَضَائِلُ تَبْعَثُ عَلَى إخَائِهِ، وَيَتَوَسَّمُ بِجَمِيلٍ يَدْعُو إلَى اصْطِفَائِهِ.
وَهَذِهِ الْحَالَةُ أَقْوَى مِنْ الَّتِي بَعْدَهَا لِظُهُورِ الصِّفَاتِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ لِطَلَبِهَا، وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَيْهَا مِنْ الِاغْتِرَارِ بِالتَّصَنُّعِ لَهَا. فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْخَيْرَ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَا كُلُّ مَنْ تَخَلَّقَ بِالْحُسْنَى كَانَتْ مِنْ طَبْعِهِ. وَالْمُتَكَلِّفُ لِلشَّيْءِ مُنَافٍ لَهُ إلَّا أَنْ يَدُومَ عَلَيْهِ مُسْتَحْسِنًا لَهُ فِي الْعَقْلِ، أَوْ مُتَدَيَّنًا بِهِ فِي الشَّرْعِ، فَيَصِيرَ مُتَطَبِّعًا بِهِ لَا مَطْبُوعًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ الْحُكَمَاءِ: لَيْسَ فِي الطَّبْعِ أَنْ يَكُونَ مَا لَيْسَ فِي التَّطَبُّعِ. ثُمَّ نَقُولُ مِنْ الْمُتَعَذَّرِ أَنْ تَكُونَ أَخْلَاقُ الْفَاضِلِ كَامِلَةً بِالطَّبْعِ، وَإِنَّمَا الْأَغْلَبُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ فَضَائِلِهِ بِالطَّبْعِ، وَبَعْضُهَا بِالتَّطَبُّعِ الْجَارِي بِالْعَادَةِ مَجْرَى الطَّبْعِ، حَتَّى يَصِيرَ مَا تَطَبَّعَ بِهِ فِي الْعَادَةِ أَغْلَبُ عَلَيْهِ مِمَّا كَانَ مَطْبُوعًا عَلَيْهِ إذْ خَالَفَ الْعَادَةَ.
وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْعَادَةُ طَبْعٌ ثَانٍ. وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
وَاعْلَمْ بِأَنَّ النَّاسَ مِنْ طِينَةٍ ... يَصْدُقُ فِي الثَّلْبِ لَهَا الثَّالِبُ
لَوْلَا عِلَاجُ النَّاسِ أَخْلَاقَهُمْ ... إذَنْ لَفَاحَ الْحَمَأُ اللَّازِبُ
وَأَمَّا الْفَاقَةُ فَهِيَ أَنْ يَفْتَقِرَ الْإِنْسَانُ؛ لِوَحْشَةِ انْفِرَادِهِ وَمَهَانَةِ وَحْدَتِهِ، إلَى اصْطِفَاءِ مَنْ يَأْنِسُ بِمُوَاخَاتِهِ وَيَثِقُ بِنُصْرَتِهِ وَمُوَالَاتِهِ. وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ: مَنْ لَمْ يَرْغَبْ بِثَلَاثٍ بُلِيَ بِسِتٍّ: مَنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي الْإِخْوَانِ بُلِيَ بِالْعَدَاوَةِ وَالْخِذْلَانِ، وَمَنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي السَّلَامَةِ بُلِيَ بِالشَّدَائِدِ وَالِامْتِهَانِ، وَمِنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي الْمَعْرُوفِ بُلِيَ بِالنَّدَامَةِ وَالْخُسْرَانِ. وَلَعَمْرِي إنَّ إخْوَانَ الصِّدْقِ مِنْ أَنْفَسِ الذَّخَائِرِ وَأَفْضَلِ الْعُدَدِ؛ لِأَنَّهُمْ سَهْمَاءُ النُّفُوسِ وَأَوْلِيَاءُ النَّوَائِبِ.
وَقَدْ قَالَتْ الْحُكَمَاءُ رُبَّ صِدِّيقٍ أَوَدُّ مِنْ شَقِيقٍ. وَقِيلَ لِمُعَاوِيَةَ: أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك؟ قَالَ: صَدِيقٌ يُحَبِّبُنِي إلَى النَّاسِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ: الْقَرِيبُ بِعَدَاوَتِهِ بَعِيدٌ، وَالْبَعِيدُ بِمَوَدَّتِهِ قَرِيبٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَمَوَدَّةٌ مِمَّنْ يُحِبُّك مُخْلِصًا ... خَيْرٌ مِنْ الرَّحِمِ الْقَرِيبِ الْكَاشِحِ

اسم الکتاب : أدب الدنيا والدين المؤلف : الماوردي    الجزء : 1  صفحة : 164
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست