اسم الکتاب : إحياء علوم الدين المؤلف : الغزالي، أبو حامد الجزء : 1 صفحة : 281
بعض الملوك حكيم إلى شريعة الأنبياء عليهم السلام فسأله الملك عن أمور فأجاب بما لا يحتمله فهمه فقال الملك أرأيت ما تأتي به الأنبياء إذا ادعت أنه ليس بكلام الناس وأنه كلام الله عز وجل فيكف يطيق الناس حمله فقال الحكيم إنا رأينا الناس لما أرادوا أن يفهموا بعض الدواب والطير ما يريدون من تقديمها وتأخيرها وإقبالها وإدبارها ورأوا الدواب يقصر تمييزها عن فهم كلامهم الصادر عن أنوار عقولهم مع حسنه وتزيينه وبديع نظمه فنزلوا إلى درجة تمييز البهائم وأوصلوا مقاصدهم إلى بواطن البهائم بأصوات يضعونها لائقة بهم من النقر والصفير والأصوات القريبة من أصواتها لكي يطيقوا حملها وكذلك الناس يعجزون عن حمل كلام الله عز وجل بكنهه وكمال صفاته فصاروا بما تراجعوا بينهم من الأصوات التي سمعوا بها الحكمة كصوت النقر والصفير الذي سمعت به الدواب من الناس
ولم يمنع ذلك معاني الحكمة المخبوءة في تلك الصفات من أن شرف الكلام أي الأصوات لشرفها وعظم لتعظيمها فكان الصوت للحكمة جسداً ومسكناً والحكمة للصوت نفساً وروحاً
فكما أن أجساد البشر تكرم وتعز لمكان الروح فكذلك أصوات الكلام تشرف للحكمة التي فيها
والكلام على المنزلة رفيع الدرجة قاهر السلطان نافذ الحكم في الحق والباطل وهو القاضي العدل والشاهد المرتضى يأمر وينهى ولا طاقة للباطل أن يقوم قدام كلام الحكمة كما لا يستطيع الظل أن يقول قدام شعاع الشمس ولا طاقة للبشر أن ينفذوا غور الحكمة كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضوء عين الشمس ولكنهم ينالون من ضوء عين الشمس ما تحيا به أبصارهم ويستدلون به على حوائجهم فقط
فالكلام كالملك المحجوب الغائب وجهه النافذ أمره وكالشمس الغزيرة الظاهرة مكنون عنصرها وكالنجوم الزهرة التي قد يهتدى بها من لا يقف على سيرها فهو مفتاح الخزائن النفيسة وشراب الحياة الذي من شرب منه لم يمت ودواء الأسقام الذي من سقي منه لم يسقم فهذا الذي ذكره الحكيم نبذة من تفهيم معنى الكلام والزيادة عليه لا تليق بعلم المعاملة فينبغي أن يقتصر عليه
الثَّانِي التَّعْظِيمُ لِلْمُتَكَلِّمِ فَالْقَارِئُ عِنْدَ الْبِدَايَةِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرَ فِي قَلْبِهِ عَظَمَةُ الْمُتَكَلِّمِ وَيَعْلَمَ أَنَّ مَا يَقْرَؤُهُ لَيْسَ مِنْ كلام البشر وأن في تلاوة كلام الله عز وجل غاية الخطر فإنه تعالى قال {لا يمسه إلا المطهرون} وكما أن ظاهر جلد المصحف وورقه محروس عن ظاهر بشرة اللامس إلا إذا كان متطهراً فباطن معناه أيضاً بحكم عزه وجلاله محجوب عن باطن القلب إلا إذا كان متطهراً عن كل رجس ومستنيراً بنور التعظيم والتوقير وكما لا يصلح لمس جلد المصحف كل يد فلا يصلح لتلاوة حروفه كل لسان ولا لنيل معانيه كل قلب ولمثل هذا التعظيم كان عكرمة بن أبي جهل إذا نشر المصحف غشى عليه ويقول هو كلام ربي هو كلام ربي فتعظيم الكلام تعظيم المتكلم وَلَنْ تَحْضُرَهُ عَظَمَةُ الْمُتَكَلِّمِ مَا لَمْ يَتَفَكَّرْ فِي صِفَاتِهِ وَجَلَالِهِ وَأَفْعَالِهِ فَإِذَا حَضَرَ بِبَالِهِ العرش والكرسي والسموات وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَشْجَارِ وَعَلِمَ أَنَّ الْخَالِقَ لِجَمِيعِهَا وَالْقَادِرَ عَلَيْهَا وَالرَّازِقَ لَهَا وَاحِدٌ وَأَنَّ الْكُلَّ فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِهِ مُتَرَدِّدُونَ بَيْنَ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَبَيْنَ نِقْمَتِهِ وَسَطْوَتِهِ إِنْ أَنْعَمَ فَبِفَضْلِهِ وَإِنْ عَاقَبَ فَبِعَدْلِهِ وأنه الذي يقول هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي وهذا غاية العظمة والتعالي فَبِالتَّفَكُّرِ فِي أَمْثَالِ هَذَا يَحْضُرُ تَعْظِيمُ الْمُتَكَلِّمِ ثُمَّ تَعْظِيمُ الْكَلَامِ
الثَّالِثُ حُضُورُ الْقَلْبِ وَتَرْكُ حديث النفس قيل في تفسير {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} أي بجد واجتهاد وأخذه بالجد أن يكون متجرداً له عند قراءته منصرف الهمة إليه عن غيره وقيل لبعضهم إذا قرأت القرآن تحدث نفسك بشيء فقال أو شيء أحب إلي من القران حتى أحدث به نفسي وكان بعض السلف إذا قرأ آية لَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ فِيهَا أَعَادَهَا ثَانِيَةً وَهَذِهِ الصِّفَةُ تَتَوَلَّدُ عَمَّا قَبْلَهَا مِنَ التَّعْظِيمِ فَإِنَّ المعظم للكلام الذي يتلوه يستبشر به ويستأنس ولا يغفل عنه ففي الْقُرْآنِ مَا يَسْتَأْنِسُ بِهِ الْقَلْبُ إِنْ كَانَ التَّالِي أَهْلًا لَهُ فَكَيْفَ يَطْلُبُ الْأُنْسَ بِالْفِكْرِ في غيره وهو في متنزه ومتفرج
اسم الکتاب : إحياء علوم الدين المؤلف : الغزالي، أبو حامد الجزء : 1 صفحة : 281