responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 466
يَزَلْ، وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يُجِيبُ دَاعِيَ الْفَنَاءِ طَوْعًا وَرَغْبَةً لَا كَرْهًا، لِأَنَّ هَذَا الْمَقَامَ امْتَزَجَ فِيهِ الْحُبُّ بِالتَّعْظِيمِ مَعَ الْقُرْبِ، وَهُوَ مُنْتَهَى سَفَرِ الطَّالِبِينَ لِمَقَامِ الْفَنَاءِ.
وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُشَمِّرًا لِلْفَنَاءِ الْعَالِي، وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ إِرَادَةِ السِّوَى لَمْ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ مُرَادٌ يُزَاحِمُ مُرَادَهُ الدِّينِيَّ الشَّرْعِيَّ النَّبَوِيَّ الْقُرْآنِيَّ، بَلْ يَتَّحِدُ الْمُرَادَانِ فَيَصِيرُ عَيْنُ مُرَادِ الرَّبِّ هُوَ مُرَادَ الْعَبْدِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ الْخَالِصَةِ، وَفِيهَا يَكُونُ الِاتِّحَادُ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الِاتِّحَادُ فِي الْمُرَادِ، لَا فِي الْمُرِيدِ، وَلَا فِي الْإِرَادَةِ.
فَتَدَبَّرْ هَذَا الْفُرْقَانَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي طَالَمَا زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامُ السَّالِكِينَ، وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامُ الْوَاجِدِينَ.
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ حَقِيقَةٌ: يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ إِرَادَةً وَإِيثَارًا، وَمَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا، وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَتَوَكُّلًا، وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ، وَفِيهِ تَرْتَفِعُ الْوَسَائِطُ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ حَقِيقَةً وَيَحْصُلُ لَهُ الِاسْتِحْذَاءُ الْمَذْكُورُ مَقْرُونًا بِغَايَةِ الْحُبِّ، وَغَايَةِ التَّعْظِيمِ.
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ يُجِيبُ دَاعِي الْفَنَاءِ فِي الْمَحَبَّةِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا لَا كَرْهًا، بَلْ يَنْجَذِبُ إِلَيْهِ انْجِذَابَ قَلْبِ الْمُحِبِّ وَرُوحِهِ، الَّذِي قَدْ مَلَأَتِ الْمَحَبَّةُ قَلْبَهُ، بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ جُزْءٌ فَارِغٌ مِنْهَا إِلَى مَحْبُوبِهِ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مَحْبُوبٍ، وَأَجَلُّهُ وَأَحَقُّهُ بِالْحُبِّ.
وَهَذَا الْفَنَاءُ أَوْجَبَهُ الْحُبُّ الْكَامِلُ الْمُمْتَزِجُ بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْقُرْبِ، وَمَحْوِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ مِنَ الْقَلْبِ، بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِي الْقَلْبِ إِلَّا الْمَحْبُوبُ وَمُرَادُهُ وَهَذَا حَقِيقَةُ الِاعْتِصَامِ بِهِ وَبِحَبْلِهِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالِاشْتِغَالُ بِهِ قُرْبًا، أَيْ يَشْغَلُهُ قُرْبُ الْحَقِّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْقُرْبِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَرِيبَ مِنَ السُّلْطَانِ جِدًّا، الْمُقْبِلَ عَلَيْهِ، الْمُكَلِّمَ لَهُ لَا يَشْتَغِلُ بِشَيْءٍ الْبَتَّةَ؟ فَعَلَى قَدْرِ الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ يَكُونُ اشْتِغَالُ الْعَبْدِ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفِرَارِ]
وَمِنْ مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: مَنْزِلَةُ الْفِرَارِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50] وَحَقِيقَةُ الْفِرَارِ: الْهَرَبُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَهُوَ نَوْعَانِ: فِرَارُ السُّعَدَاءِ، وَفِرَارُ الْأَشْقِيَاءِ.

اسم الکتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 466
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست