responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 201
فَهَذَا مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا يَسْلُكُهُ الْأَكْيَاسُ الْمُتَمَلِّقُونَ لِرَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ، وَاللَّهُ يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَتَمَلَّقَ لَهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ " تَمَلَّقُوا لِلَّهِ " وَفِي الصَّحِيحِ «لَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ» وَإِنْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ الْإِعْذَارَ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ " «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» " وَقَالَ تَعَالَى {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 5] فَإِنَّهُ مِنْ تَمَامِ عَدْلِهِ وَإِحْسَانِهِ أَنْ أَعْذَرَ إِلَى عِبَادِهِ، وَأَنْ لَا يُؤَاخِذَ ظَالِمَهُمْ إِلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْإِعْذَارِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، فَهُوَ أَيْضًا يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْهِ، وَيَتَنَصَّلَ إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ " «مَنِ اعْتَذَرَ إِلَى اللَّهِ قَبِلَ اللَّهُ عُذْرَهُ» " فَهَذَا هُوَ الِاعْتِذَارُ الْمَحْمُودُ النَّافِعُ.
وَأَمَّا الِاعْتِذَارُ بِالْقَدَرِ فَهُوَ مُخَاصَمَةٌ لِلَّهِ، وَاحْتِجَاجٌ مِنَ الْعَبْدِ عَلَى الرَّبِّ، وَحَمْلٌ لِذَنْبِهِ عَلَى الْأَقْدَارِ، وَهَذَا فِعْلُ خُصَمَاءِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ شُيُوخِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} [آل عمران: 14] قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالُوا: مَا الْمُرَادُ بِهَا؟ قَالَ: إِقَامَةُ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ.
وَكَذِبَ هَذَا الْجَاهِلُ بِاللَّهِ وَكَلَامِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا التَّزْهِيدُ فِي هَذَا الْفَانِي الذَّاهِبِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْبَاقِي الدَّائِمِ، وَالْإِزْرَاءُ بِمَنْ آثَرَ هَذَا الْمُزَيَّنَ وَاتَّبَعَهُ، بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي يُزَيَّنُ لَهُ مَا يَلْعَبُ بِهِ، فَيَهُشُّ إِلَيْهِ وَيَتَحَرَّكُ لَهُ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فَاعِلَ التَّزْيِينِ، فَلَمْ يَقُلْ زُيِّنَّا لِلنَّاسِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُضِيفُ تَزْيِينَ الدُّنْيَا وَالْمَعَاصِي إِلَى الشَّيَاطِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43] وَقَالَ {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] وَفِي الْحَدِيثِ «بُعِثْتُ هَادِيًا وَدَاعِيًا، وَلَيْسَ إِلَيَّ مِنَ الْهِدَايَةِ شَيْءٌ، وَبُعِثَ إِبْلِيسُ مُغْوِيًا وَمُزَيِّنًا، وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ شَيْءٌ» وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا قَوْلَهُ تَعَالَى

اسم الکتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 201
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست