responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : الطرق الحكمية المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 50
أَنْ تُمَكِّنَ مِنْ نَفْسِهَا، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ عَلَى الْكُفْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ، وَإِنْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا. فَالْمُكْرَهَةُ عَلَى الْفَاحِشَةِ أَوْلَى.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ لِرَجُلٍ، وَقِيلَ لَهُ: إنْ لَمْ تُمَكِّنْ مِنْ نَفْسِك، وَإِلَّا قَتَلْنَاك، أَوْ مُنِعَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، حَتَّى يُمَكِّنَ مِنْ نَفْسِهِ، وَخَافَ الْهَلَاكَ. فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّمْكِينُ؟ قِيلَ: لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ، وَيَصْبِرُ لِلْمَوْتِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ: أَنَّ الْعَارَ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَفْعُولَ بِهِ، لَا يُمْكِنُ تَلَافِيهِ، وَهُوَ شَرٌّ مِمَّا يَحْصُلُ لَهُ بِالْقَتْلِ، أَوْ مُنِعَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، حَتَّى يَمُوتَ؛ فَإِنَّ هَذَا فَسَادٌ فِي نَفْسِهِ وَعَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَنُطْفَةُ اللُّوطِيِّ مَسْمُومَةٌ، تَسْرِي فِي الرُّوحِ وَالْقَلْبِ، فَتُفْسِدُهَا فَسَادًا عَظِيمًا، قَلَّ أَنْ يُرْجَى مَعَهُ صَلَاحٌ.
فَفَسَادُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ رُوحِهِ وَبَدَنِهِ بِالْقَتْلِ، دُونَ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ؛ وَلِهَذَا يَجُوزُ لَهُ أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ - أَنْ يَقْتُلَ مَنْ يُرَاوِدُهُ عَنْ نَفْسِهِ، إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ خَوْفِ مَفْسَدَةٍ.
وَلَوْ فَعَلَهُ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ بِيعَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْ اسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يُعْتَقُ عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلٌ قَوِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعِتْقِ بِالْمُثْلَةِ، لَا سِيَّمَا إذَا اسْتَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا جَارٍ مَجْرَى الْمُثْلَةِ.
وَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ يُتَّهَمُ بِغُلَامِهِ. فَأَرَادَ بَعْضُ النَّاسِ أَنْ يَرْفَعَهُ إلَى الْإِمَامِ، فَدَبَّرَ غُلَامَهُ فَقَالَ: يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، إذَا كَانَ فَاجِرًا مُعْلِنًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يُبَاحُ لِلْغُلَامِ أَنْ يَهْرُبَ؟ قِيلَ: نَعَمْ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ.
قَالَ أَبُو عَمْرٍو الطَّرَسُوسِيُّ - فِي كِتَابِ تَحْرِيمِ اللِّوَاطِ: بَابُ إبَاحَةِ الْهَرَبِ لِلْمَمْلُوكِ إذَا أُرِيدَ مِنْهُ هَذَا الْبَلَاءُ - ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: " أَنَّ عَبْدًا أَتَاهُ، فَقَالَ: إنِّي مَمْلُوكٌ لِهَؤُلَاءِ، يَأْمُرُونَنِي بِمَا لَا يَصْلُحُ أَوْ نَحْوِهِ. قَالَ: اذْهَبْ فِي الْأَرْضِ ".
وَذُكِرَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ الرَّيَّانِ، قَالَ: سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ الْغُلَامِ إذَا أَرَادُوا أَنْ يَفْضَحُوهُ؟ قَالَ يَمْنَعُ، وَيَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ. قَالَ: أَرَأَيْت إنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُنْجِيهِ إلَّا الْقَتْلُ، أَيُقْتَلُ حَتَّى يَنْجُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ. انْتَهَى.
قُلْت: وَيَكُونُ مُجَاهِدًا إنْ قَتَلَ، وَشَهِيدًا إنْ قُتِلَ. فَإِنَّ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، فَكَيْفَ مَنْ قُتِلَ دُونَ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ؟

(فَصْلٌ)

اسم الکتاب : الطرق الحكمية المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 50
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست