responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : الطرق الحكمية المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 24
أَمَارَاتُهُ لِقَوْلِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ " الْبَيِّنَةَ " فِي الشَّرْعِ: اسْمٌ لِمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ، وَهِيَ تَارَةً تَكُونُ أَرْبَعَةَ شُهُودٍ، وَتَارَةً ثَلَاثَةً بِالنَّصِّ فِي بَيِّنَةِ الْمُفْلِسِ.
وَتَارَةً شَاهِدَيْنِ، وَشَاهِدًا وَاحِدًا، وَامْرَأَةً وَاحِدَةً، وَتَكُونُ نُكُولًا وَيَمِينًا، أَوْ خَمْسِينَ يَمِينًا، أَوْ أَرْبَعَةَ أَيْمَانٍ.
وَتَكُونُ شَاهِدَ الْحَالِ فِي الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَغَيْرِهَا، فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» أَيْ عَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ مَا يُبَيِّنُ صِحَّةَ دَعْوَاهُ، فَإِذَا ظَهَرَ صِدْقُهُ بِطَرِيقٍ مِنْ الطُّرُقِ حُكِمَ لَهُ.

[فَصَلِّ فِي الْحُكْمِ بِالْفِرَاسَةِ]
9 - (فَصْلٌ) وَلَمْ يَزَلْ حُذَّاقُ الْحُكَّامِ وَالْوُلَاةِ يَسْتَخْرِجُونَ الْحُقُوقَ بِالْفِرَاسَةِ وَالْأَمَارَاتِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ لَمْ يُقَدِّمُوا عَلَيْهَا شَهَادَةً تُخَالِفُهَا وَلَا إقْرَارًا.
وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ بِأَنَّ الْحَاكِمَ إذَا ارْتَابَ بِالشُّهُودِ فَرَّقَهُمْ وَسَأَلَهُمْ: كَيْفَ تَحَمَّلُوا الشَّهَادَةَ؟ وَأَيْنَ تَحَمَّلُوهَا؟ وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، مَتَى عَدَلَ عَنْهُ أَثِمَ، وَجَارَ فِي الْحُكْمِ. وَكَذَلِكَ إذَا ارْتَابَ بِالدَّعْوَى سَأَلَ الْمُدَّعِي عَنْ سَبَبِ الْحَقِّ، وَأَيْنَ كَانَ، وَنَظَرَ فِي الْحَالِ: هَلْ يَقْتَضِي صِحَّةَ ذَلِكَ؟ وَكَذَلِكَ إذَا ارْتَابَ بِمَنْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ كَالْأَمِينِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَكْشِفَ الْحَالَ، وَيَسْأَلَ عَنْ الْقَرَائِنِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى صُورَةِ الْحَالِ.
وَقَلَّ حَاكِمٌ أَوْ وَالٍ اعْتَنَى بِذَلِكَ، وَصَارَ لَهُ فِيهِ مَلَكَةٌ إلَّا وَعَرَفَ الْمُحِقَّ مِنْ الْمُبْطِلِ، وَأَوْصَلَ الْحُقُوقَ إلَى أَهْلِهَا.
فَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَشَكَرَتْ عِنْدَهُ زَوْجَهَا وَقَالَتْ: " هُوَ مِنْ خَيْرِ أَهْلِ الدُّنْيَا، يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى الصَّبَاحِ، وَيَصُومُ النَّهَارَ حَتَّى يُمْسِيَ، ثُمَّ أَدْرَكَهَا الْحَيَاءُ، فَقَالَ: " جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَحْسَنْت الثَّنَاءَ ". فَلَمَّا وَلَّتْ قَالَ كَعْبُ بْنُ سَوْرٍ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَقَدْ أَبْلَغَتْ فِي الشَّكْوَى إلَيْك، فَقَالَ: وَمَا اشْتَكَتْ؟ قَالَ: زَوْجَهَا. قَالَ: عَلَيَّ بِهِمَا. فَقَالَ لِكَعْبٍ: اقْضِ بَيْنَهُمَا، قَالَ: أَقْضِي وَأَنْتَ شَاهِدٌ؟ قَالَ: إنَّك قَدْ فَطِنْت إلَى مَا لَمْ أَفْطَنْ لَهُ، قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَأَفْطِرْ عِنْدَهَا يَوْمًا. وَقُمْ ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَبِتْ عِنْدَهَا لَيْلَةً، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا أَعْجَبُ إلَيَّ مِنْ الْأَوَّلِ " فَبَعَثَهُ قَاضِيًا لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ. فَكَانَ يَقَعُ لَهُ فِي الْحُكُومَةِ مِنْ الْفِرَاسَةِ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ.
وَكَذَلِكَ شُرَيْحٌ فِي فِرَاسَتِهِ وَفِطْنَتِهِ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: شَهِدْت شُرَيْحًا - وَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ تُخَاصِمُ رَجُلًا - فَأَرْسَلَتْ عَيْنَيْهَا وَبَكَتْ. فَقُلْت: يَا أَبَا أُمَيَّةَ، مَا أَظُنُّ هَذِهِ الْبَائِسَةَ إلَّا مَظْلُومَةً؟ فَقَالَ: يَا شَعْبِيُّ، إنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ جَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ.

اسم الکتاب : الطرق الحكمية المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 24
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست