responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : الطب النبوي المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 69
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجُوعَ إِنَّمَا هُوَ طَلَبُ الْأَعْضَاءِ لِلْغِذَاءِ لِتَخَلُّفِ الطَّبِيعَةِ بِهِ عَلَيْهَا عِوَضَ مَا يَتَحَلَّلُ مِنْهَا، فَتَجْذِبُ الْأَعْضَاءَ الْقُصْوَى مِنَ الْأَعْضَاءِ الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهِيَ الْجَذْبُ إِلَى الْمَعِدَةِ، فَيُحِسَّ الْإِنْسَانُ بِالْجَوْعِ، فَيَطْلُبُ الْغِذَاءَ، وَإِذَا وُجِدَ الْمَرَضُ، اشْتَغَلَتِ الطَّبِيعَةُ بِمَادَّتِهِ وَإِنْضَاجِهَا وَإِخْرَاجِهَا عَنْ طَلَبِ الْغِذَاءِ، أَوِ الشَّرَابِ، فَإِذَا أُكْرِهَ الْمَرِيضُ عَلَى اسْتِعْمَالِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، تَعَطَّلَتْ بِهِ الطَّبِيعَةُ عَنْ فِعْلِهَا، وَاشْتَغَلَتْ بِهَضْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ عَنْ إِنْضَاجِ مَادَّةِ الْمَرَضِ وَدَفْعِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَرَرِ الْمَرِيضِ، وَلَا سِيَّمَا فِي أَوْقَاتِ الْبُحْرَانِ [1] ، أَوْ ضَعْفِ الْحَارِّ الْغَرِيزِيِّ أَوْ خُمُودِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْبَلِيَّةِ، وَتَعْجِيلِ النَّازِلَةِ الْمُتَوَقَّعَةِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَالْحَالِ إِلَّا مَا يَحْفَظُ عَلَيْهِ قُوَّتَهُ وَيُقَوِّيهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ مُزْعِجٍ لِلطَّبِيعَةِ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِمَا لَطُفَ قِوَامُهُ مِنَ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَغْذِيَةِ، وَاعْتَدَلَ مِزَاجُهُ كَشَرَابِ اللَّيْنُوفَرِ، وَالتِّفَّاحِ، وَالْوَرْدِ الطَّرِيِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَمِنَ الْأَغْذِيَةِ مَرَقُ الْفَرَارِيجِ الْمُعْتَدِلَةِ الطَّيِّبَةِ فَقَطْ، وَإِنْعَاشُ قُوَاهُ بِالْأَرَايِيحِ الْعَطِرَةِ الْمُوَافِقَةِ، وَالْأَخْبَارِ السَّارَّةِ، فَإِنَّ الطَّبِيبَ خَادِمُ الطَّبِيعَةِ، وَمُعِينُهَا لَا مُعِيقُهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّمَ الْجَيِّدَ هُوَ الْمُغَذِّي لِلْبَدَنِ، وَأَنَّ الْبَلْغَمَ دَمٌ فَجٌّ قَدْ نَضِجَ بَعْضَ النُّضْجِ، فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْمَرْضَى فِي بَدَنِهِ بَلْغَمٌ كَثِيرٌ، وَعَدِمَ الْغِذَاءَ، عَطَفَتِ الطَّبِيعَةُ عَلَيْهِ، وَطَبَخَتْهُ، وَأَنْضَجَتْهُ، وَصَيَّرَتْهُ دَمًا، وَغَذَّتْ بِهِ الْأَعْضَاءَ، وَاكْتَفَتْ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ، وَالطَّبِيعَةُ هِيَ الْقُوَّةُ الَّتِي وَكَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِتَدْبِيرِ الْبَدَنِ وَحِفْظِهِ وَصِحَّتِهِ، وَحِرَاسَتِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ فِي النَّدْرَةِ إِلَى إِجْبَارِ الْمَرِيضِ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَذَلِكَ فِي الْأَمْرَاضِ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا اخْتِلَاطُ الْعَقْلِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، أَوْ مِنَ الْمُطْلَقِ الَّذِي قَدْ دَلَّ عَلَى تَقْيِيدِهِ دَلِيلٌ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ الْمَرِيضَ قَدْ يَعِيشُ بِلَا غِذَاءٍ أَيَّامًا لَا يَعِيشُ الصَّحِيحُ فِي مِثْلِهَا.
وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ» مَعْنًى لَطِيفٌ زَائِدٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَطِبَّاءُ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ لَهُ عِنَايَةٌ بِأَحْكَامِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ، وَتَأْثِيرِهَا فِي طَبِيعَةِ الْبَدَنِ، وَانْفِعَالِ الطَّبِيعَةِ عَنْهَا، كَمَا تَنْفَعِلُ هِيَ كَثِيرًا عَنِ الطَّبِيعَةِ، وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَيْهِ إِشَارَةً، فَنَقُولُ: النَّفْسُ إِذَا حَصَلَ لَهَا مَا يَشْغَلُهَا مِنْ مَحْبُوبٍ أَوْ مَكْرُوهٍ أَوْ مَخُوفٍ،

[1] البحران: بضم فسكون: وهو التغير الذي يحدث دفعة في الأمراض الحادة
اسم الکتاب : الطب النبوي المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 69
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست