responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : الطب النبوي المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 151
رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ ... وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ ... وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
فَالْهَوَى أَكْبَرُ أَدْوَائِهَا، وَمُخَالَفَتُهُ أَعْظَمُ أَدْوِيَتِهَا، وَالنَّفْسُ فِي الْأَصْلِ خُلِقَتْ جَاهِلَةً ظَالِمَةً، فَهِيَ لِجَهْلِهَا تَظُنُّ شِفَاءَهَا فِي اتِّبَاعِ هَوَاهَا، وَإِنَّمَا فِيهِ تَلَفُهَا وَعَطَبُهَا، وَلِظُلْمِهَا لَا تَقْبَلُ مِنَ الطِّبِيبِ النَّاصِحِ، بَلْ تَضَعُ الدَّاءَ مَوْضِعَ الدَّوَاءِ فَتَعْتَمِدُهُ، وَتَضَعُ الدَّوَاءَ مَوْضِعَ الدَّاءِ فَتَجْتَنِبُهُ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ إِيثَارِهَا لِلدَّاءِ، وَاجْتِنَابِهَا لِلدَّوَاءِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْأَسْقَامِ وَالْعِلَلِ الَّتِي تُعْيِي الْأَطِبَّاءَ، وَيَتَعَذَّرُ مَعَهَا الشِّفَاءُ. وَالْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى، أَنَّهَا تُرَكِّبُ ذَلِكَ على القدر، فتبّرىء نَفْسَهَا، وَتَلُومُ رَبَّهَا بِلِسَانِ الْحَالِ دَائِمًا، وَيَقْوَى اللَّوْمُ حَتَّى يُصَرِّحَ بِهِ اللِّسَانُ.
وَإِذَا وَصَلَ الْعَلِيلُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَلَا يَطْمَعُ فِي بُرْئِهِ إِلَّا أَنْ تَتَدَارَكَهُ رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ، فَيُحْيِيهِ حَيَاةً جَدِيدَةً، وَيَرْزُقُهُ طَرِيقَةً حَمِيدَةً، فَلِهَذَا كَانَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ مُشْتَمِلًا عَلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، وَوَصْفِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْعَظَمَةِ وَالْحِلْمِ، وَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مُسْتَلْزِمَتَانِ لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْإِحْسَانِ وَالتَّجَاوُزِ، وَوَصْفِهِ بِكَمَالِ رُبُوبِيَّتِهِ للعالم العلوي والسفلي، والعرش هُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْظَمُهَا. وَالرُّبُوبِيَّةُ التَّامَّةُ تَسْتَلْزِمُ تَوْحِيدَهُ، وَأَنَّهُ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ وَالْحُبُّ وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ وَالْإِجْلَالُ وَالطَّاعَةُ إِلَّا لَهُ. وَعَظَمَتُهُ الْمُطْلَقَةُ تَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ كُلِّ كَمَالٍ لَهُ، وَسَلْبَ كُلِّ نَقْصٍ وَتَمْثِيلٍ عَنْهُ. وَحِلْمُهُ يَسْتَلْزِمُ كَمَالَ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ.
فَعِلْمُ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتُهُ بِذَلِكَ تُوجِبُ مَحَبَّتَهُ وَإِجْلَالَهُ وَتَوْحِيدَهُ، فَيَحْصُلُ لَهُ مِنَ الِابْتِهَاجِ وَاللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ أَلَمَ الْكَرْبِ وَالْهَمِّ وَالْغَمِّ، وَأَنْتَ تَجِدُ الْمَرِيضَ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ مَا يَسُرُّهُ وَيُفْرِحُهُ، وَيُقَوِّي نَفْسَهُ، كَيْفَ تَقْوَى الطَّبِيعَةُ عَلَى دَفْعِ الْمَرَضِ الْحِسِّيِّ، فَحُصُولُ هَذَا الشِّفَاءِ لِلْقَلْبِ أَوْلَى وَأَحْرَى.
ثُمَّ إِذَا قَابَلْتَ بَيْنَ ضِيقِ الْكَرْبِ وَسَعَةِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا دُعَاءُ الْكَرْبِ، وَجَدْتَهُ فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِتَفْرِيجِ هَذَا الضِّيقِ، وَخُرُوجِ الْقَلْبِ مِنْهُ إِلَى سَعَةِ الْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ إِنَّمَا يُصَدِّقُ بِهَا مَنْ أَشْرَقَتْ فِيهِ أَنْوَارُهَا، وَبَاشَرَ قَلْبُهُ حَقَائِقَهَا.

اسم الکتاب : الطب النبوي المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 151
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست