responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : إعلام الموقعين عن رب العالمين المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 185
الَّذِي شَرَعَ لَهُ فَهُوَ أَوْلَى بِالذَّمِّ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ تَسَبَّبَ إلَى تَحْرِيمِ الشَّارِعِ صَرِيحًا بِمَسْأَلَتِهِ عَنْ حُكْمِ مَا سَكَتَ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ حَرَّمَ السُّكُوتَ عَنْهُ بِقِيَاسِهِ وَبِرَأْيِهِ؟ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ لَمَّا كَانَ عَفْوًا عَفَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ عَنْهُ، وَكَانَ الْبَحْثُ عَنْهُ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ اللَّهِ إيَّاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُقْتَضَى التَّحْرِيمِ، لَا لِمُجَرَّدِ السُّؤَالِ عَنْ حُكْمِهِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَفَا عَنْ ذَلِكَ وَسَامَحَ بِهِ عِبَادَهُ كَمَا يَعْفُو عَمَّا فِيهِ مَفْسَدَةٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ؛ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ ذِكْرِ لَفْظٍ عَامٍّ يُحَرِّمُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَفْوٌ عَنْهُ، فَمَنْ حَرَّمَهُ بِسُؤَالِهِ عَنْ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَقِيَاسِهِ عَلَى الْمُحَرَّمِ بِالنَّصِّ كَانَ أَدْخَلَ فِي الذَّمِّ مِمَّنْ سَأَلَهُ عَنْ حُكْمِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ فَحَرُمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ، بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَبْحَثَ عَنْهُ، وَلَا يَسْأَلَ عَنْ حُكْمِهِ، اكْتِفَاءً بِسُكُوتِ اللَّهِ عَنْ عَفْوِهِ عَنْهُ؛ فَهَكَذَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُحَرِّمَ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ بِغَيْرِ النَّصِّ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ أَصْلَهُ الَّذِي يُلْحَقُ بِهِ.
قَالُوا: وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا كِتَابُ اللَّهِ حَيْثُ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101] {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 102] ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوهُ مِنْ السُّؤَالِ مَا تَرَكَهُمْ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ أَنْ نَتْرُكَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ، فَلَا نَقُولَ لَهُ: لِمَ حَرَّمَتْ كَذَا؟ لِنُلْحِقَ بِهِ مَا سَكَتَ عَنْهُ، بَلْ هَذَا أَبْلَغُ فِي الْمَعْصِيَةِ مِنْ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ حُكْمِ شَيْءٍ لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ وَاضِحٌ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ «وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ، فَجَعَلَ الْأُمُورَ ثَلَاثَةً، لَا رَابِعَ لَهَا: مَأْمُورٌ بِهِ، فَالْفَرْضُ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَالْفَرْضُ عَلَيْهِمْ اجْتِنَابُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَسْكُوتٌ عَنْهُ؛ فَلَا يُتَعَرَّضُ لِلسُّؤَالِ وَالتَّفْتِيشِ عَنْهُ. وَهَذَا حُكْمٌ لَا يَخْتَصُّ بِحَيَاتِهِ فَقَطْ، وَلَا يَخُصُّ الصَّحَابَةَ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ، بَلْ فُرِضَ عَلَيْنَا نَحْنُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ، وَتَرْكُ الْبَحْثِ وَالتَّفْتِيشِ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ التَّرْكُ جَهْلًا وَتَجْهِيلًا لِحُكْمِهِ، بَلْ إثْبَاتٌ لِحُكْمِ الْعَفْوِ

اسم الکتاب : إعلام الموقعين عن رب العالمين المؤلف : ابن القيم    الجزء : 1  صفحة : 185
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست