responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك المؤلف : عليش، محمد بن أحمد    الجزء : 1  صفحة : 381
الْكُفْرَانِيَّةُ وَالصَّاعِقَةُ النَّصْرَانِيَّةُ فِي الدِّينِ وَالْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ، فَقَدْ هَاجَرَ مِنْ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرِهِمْ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ - إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فِرَارًا بِدِينِهِمْ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ أَهْلِ مَكَّةَ جَمَاعَةٌ عَظِيمَةٌ وَزُمْرَةٌ كَرِيمَةٌ مِنْهُمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَحَالُ أَرْضِ الْحَبَشَةِ غَيْرُ مَقَرِّهِمْ وَهَاجَرَ آخَرُونَ إلَى غَيْرِهَا وَهَجَرُوا أَوْطَانَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ وَآبَاءَهُمْ وَنَبَذُوهُمْ وَقَاتَلُوهُمْ وَحَارَبُوهُمْ تَمَسُّكًا مِنْهُمْ بِدِينِهِمْ وَرَفْضًا لِدُنْيَاهُمْ فَكَيْفَ بِعَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِهَا لَا يُخِلُّ تَرْكُهُ بِتَكَسُّبٍ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُؤَثِّرُ رَفْضُهُ فِي مُتَّسَعِ الْمُسْتَرْزِقِينَ وَلَا سِيَّمَا هَذَا الْقُطْرُ الدِّينِيُّ الْمَغْرِبِيُّ صَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَزَادَهُ عِزًّا وَشَرَفًا وَوَقَاهُ مِنْ الْأَغْيَارِ وَالْأَكْدَارِ وَسَطًا وَطَرَفًا، فَإِنَّهُ مِنْ أَخْصَبِ أَرْضِ اللَّهِ أَرْضًا وَأَشْبَعِهَا بِلَادًا طُولًا وَعَرْضًا وَخُصُوصًا حَاضِرَةُ فَاسَ، وَأَنْظَارُهَا نَوَاحِيهَا مِنْ كُلِّ الْجِهَاتِ وَأَقْطَارِهَا.
وَلَئِنْ سَلِمَ هَذَا الْوَهْمُ وَعَدِمَ صَاحِبُهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى الْعَقْلَ الرَّاجِحَ وَالرَّأْيَ النَّاجِحَ وَالْفَهْمَ، فَقَدْ أَقَامَ عِلْمًا وَبُرْهَانًا عَلَى نَفْسِهِ الْخَسِيسَةِ الرَّدِيَّةِ بِتَرْجِيحِ عَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ حُطَامِي مُحْتَقَرٍ عَلَى عِلْمٍ دِينِيٍّ أُخْرَوِيٍّ مُدَّخَرٍ وَبِئْسَ هَذِهِ الْمُفَاضَلَةُ وَالْأَرْجَحِيَّةُ وَخَابَ وَخَسِرَ مَنْ آثَرَهَا وَوَقَعَ فِيهَا. أَمَا عَلِمَ الْمَغْبُونُ فِي صَفْقَتِهِ النَّادِمِ عَلَى هِجْرَتِهِ مِنْ دَارٍ يُدْعَى فِيهَا التَّثْلِيثُ وَيُضْرَبُ فِيهَا النَّوَاقِيسُ وَيُعْبَدُ فِيهَا الشَّيْطَانُ وَيُكْفَرُ بِالرَّحْمَنِ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا دِينُهُ إذْ بِهِ نَجَاتُهُ الْأَبَدِيَّةُ وَسَعَادَتُهُ الْأُخْرَوِيَّةُ وَعَلَيْهِ يَبْذُلُ نَفْسَهُ النَّفِيسَةَ فَضْلًا عَنْ جُمْلَةِ حَالِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9] وَقَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15] وَأَعْظَمُ فَوَائِدِ الْمَالِ وَأَجَلِّهَا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ إنْفَاقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ وَكَيْفَ يَقْتَحِمُ بِالتَّشَبُّثِ وَيَتَرَاءَى وَيَتَطَارَحُ، أَوْ يَتَسَارَعُ مِنْ أَجْلِهِ إلَى مُوَالَاةِ الْعُدَاةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52] وَالدَّائِرَةُ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ فَوَاتُ التَّمَسُّكِ بِعَقَارِ الْمَالِ فَوُصِفَ بِمَرَضِ الْقَلْبِ وَضَعْفِ الْيَقِينِ، وَلَوْ كَانَ قَوِيَّ الدِّينِ صَحِيحَ الْيَقِينِ وَاثِقًا بِاَللَّهِ تَعَالَى مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ وَمُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلَيْهِ لَمَا أَهْمَلَ قَاعِدَةَ التَّوَكُّلِ عَلَى عُلُوِّ رُتْبَتِهَا وَنُمُوِّ ثَمَرَتِهَا وَشَهَادَتِهَا بِصِحَّةِ الْإِيمَانِ وَرُسُوخِ الْيَقِينِ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا رُخْصَةَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْت فِي الرُّجُوعِ وَلَا فِي عَدَمِ الْهِجْرَةِ بِوَجْهٍ وَلَا حَالٍ، وَأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ مَهْمَا تَوَصَّلَ إلَى ذَلِكَ بِمَشَقَّةٍ فَادِحَةٍ، أَوْ حِيلَةٍ دَقِيقَةٍ بَلْ مَهْمَا وَجَدَ السَّبِيلَ إلَى التَّخَلُّصِ مِنْ رِبْقَةِ الْكُفْرِ، وَهُوَ لَا يَجِدُ عَشِيرَةً تَذُبُّ عَنْهُ وَحَمَاةً يَحْنُونَ عَلَيْهِ وَرَضِيَ بِالْمَقَامِ بِمَكَانٍ فِيهِ الضَّيْمُ عَلَى الدِّينِ وَالْمَنْعُ مِنْ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مَارِقٌ مِنْ الدِّينِ وَمُنْخَرِطٌ فِي سِلْكِ الْمُلْحِدِينَ وَالْوَاجِبُ الْفِرَارُ مِنْ دَارِ غَلَبَ عَلَيْهَا أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْخُسْرَانِ إلَى دَارِ الْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ وَلِذَلِكَ قُوبِلُوا فِي الْجَوَابِ عِنْدَ الِاعْتِذَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] : أَيْ حَيْثُمَا تَوَجَّهَ الْمُهَاجِرُ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا، فَإِنَّهُ يَجِدُ أَرْضَ اللَّهِ وَاسِعَةً وَمُتَّصِلَةً فَلَا عُذْرَ بِوَجْهٍ لِمُسْتَطِيعٍ، وَإِنْ كَانَ بِمَشَقَّةٍ فِي الْعَمَلِ، أَوْ فِي الْحِيلَةِ، أَوْ فِي اكْتِسَابِ الرِّزْقِ، أَوْ ضِيقٍ فِي الْمَعِيشَةِ إلَّا الْمُسْتَضْعَفُ الْعَاجِزُ رَأْسًا الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدِي سَبِيلًا، وَمَنْ بَادَرَ إلَى الْفِرَارِ وَسَارَعَ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ دَارِ الْبَوَارِ إلَى دَارِ الْأَبْرَارِ فَذَلِكَ أَمَارَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي الْحَالِ الْعَاجِلَةِ لِمَا يَصِيرُ إلَيْهِ حَالُهُ فِي الْحَالِ الْآجِلَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ يُسِرَّ لَهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ كَانَ مَأْمُولًا لَهُ الظُّفْرُ وَالْفَوْزُ، وَمَنْ تَيَسَّرَ لَهُ الْعَمَلُ الْخَبِيثُ كَانَ مَخُوفًا عَلَيْهِ الْهَلَاكُ وَالْخُسْرَانُ جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ تَيَسَّرَ لِلْيُسْرَى وَانْتَفَعَ بِالذِّكْرَى وَمَا ذَكَرْت عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قَبِيحِ الْكَلَامِ وَسَبِّ دَارِ الْإِسْلَامِ وَتَمَنِّي الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الشِّرْكِ وَالْأَصْنَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْفَوَاحِشِ الْمُنْكَرَةِ الَّتِي لَا تُصْدَرُ إلَّا مِنْ اللِّئَامِ يُوجِبُ لَهُمْ خِزْيُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَنْزِلُهُمْ أَسْوَأَ

اسم الکتاب : فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك المؤلف : عليش، محمد بن أحمد    الجزء : 1  صفحة : 381
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست