من تلك الديار إلى أوطانهم إنما هي أصباغ مفرغة على أجسامهم إفراغاً لا تلبث أن تطلع عليها شمس المشرق حتى تنصل وتتطاير ذراتها في أجواء السماء وأن مكان المدنية من نفوسهم مكان الوجه من المرآة إذا انحرف عنها زال خياله منها فلم أشأ أن أفارق ذلك الصديق فلبسته على علاته وفاء بعهده السابق ورجاء لغده المنتظر متحملاً في سبيل ذلك من حمقه ووسواسه وفساد تصوراته وغرابة أطواره ما لا طاقة بمثلي باحتمال مثله حتى جاء في ذات ليلة بداهية الدواهي ومصيبة المصائب فكانت آخر عهدي به دخلت عليه فوجدته واجماً مكتئباً فحييته فأومأ إلي بالتحية إيماء فسألته ما باله؟
...
فقال: " ما زلت منذ الليلة من هذه المرأة في عناء لا أعرف السبيل إلى الخلاص منه ولا أدري مصير أمري فيه " قلت: " وأي امرأة تريد؟ "
قال: " تلك التي يسميها الناس زوجتي وأنا أسميها الصخرة العاتية في طريق مطالبي وآمالي " قلت: " إنك كثير الآمال يا سيدي ففي أي آمالك تَحَدَّث؟ "
قال: " ليس لي في الحياة إلا أمل واحد وهو أن أغمض عيني ثم أفتحها فلا أرى برقعاً على وجه امرأة في هذا البلد "
قلت: " ذلك ما لا تملكه ولا أرى لك فيه " قال: " إن كثيراً من الناس يرون في الحجاب رأيي ويتمنون في أمره ما أتمنى ولا يحول بين نزعه عن وجوه نسائهم وإبرازهن إلى الرجال يجالسنهم كما يجلس بعضهم إلى بعض إلا العجز والضعف والهيبة التي لا تزال تلم بنفس الشرقي كلما حاول الإقدام على أمر جديد فرأيت أن أكون أول هادم لهذا البناء العادي [315] القديم الذي وقف سداً دون سعادة الأمة وارتقائها دهراً طويلاً وأن يتم على يدي ما لم يتم على يد أحد غيري من دعاة الحرية وأشياعها فعرضت الأمر على زوجتي فأكبرته وأعظمته وخيل إليها أنني جئتها بإحدى النكبات العظام والرزايا الجسام وزعمت إنها إن برزت للرجال فإنها لا تستطيع أن تبرز إلى النساء بعد ذلك حياءاً منهن وخجلاً ولا خجل [315] أي القديم، نسبة إلى عاد.