…أما ما جاء في الحديث الخامس (أَن ابن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تُجْمَع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة) من رواية مالك. و (أنه كان إذا جلس من يقبض زكاةَ الفطر بيوم أو يومين ولا يرى بذلك بأساً) من رواية ابن أبي شيبة. فإنه وإن دلَّ على أن المسلمين في أيام ابن عمر كانوا يجمعون ويقبضون زكاة الفطر قبل الصلاة بيومين أو بثلاثة فإن هذه الدلالة بصفتها الواردة هنا غير مُلزمةٍ، إذ ليس في هذه الصفة أيةُ دلالة على الإلزام، وهي لا تعدو كونها مما يجوز فعله من تنظيمٍ لإخراج الزكاة وما يحتاجه التنظيم إلى تحديدٍ وتوقيت، ولا تدل على أكثر من ذلك، فمن أراد أن يتخذ تنظيماً لقبض الزكاة، فإنه ولا شك في حاجة لاختيار وقتٍ لهذا التنظيم، وهذا لا يعني أن هذا الاختيار وحده هو المشروع. وانظر في قول ابن عمر (ولا يرى بذلك بأساً) فإنه يدلُّ دلالةً واضحة على أن هذا التحديد في قبض الزكاة ليس ملزماً، وإلا لما كان لقول ابن عمر معنى، بل ولما جاز هذا القول.
…أما الحديث الثامن فقوله (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفطر بيومين فقال: أدُّوا صاعاً من بُرٍّ ... ) فليس هو أيضاً نصاً على تحديد أول إخراج الزكاة وإنما هو ذِكرٌ للوقت الذي شرع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر والفرق كبير بين النص على وقت الوجوب والنص على وقت إعلان الحكم، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد بين حكم زكاة الفطر وأمر بإخراجها، وكان ذلك منه قبل الفطر بيومين، أي أنه أمر بزكاة الفطر، واختار لإِعلان هذا الأمر وقتاً يسبق الفطر بيومين، ولم يتطرق النص مطلقاً إلى تحديد بدء الإخراج، كما لا يخفى على البصير المدقِّق. وإذن فإن النصوص كلها قد أغفلت تحديد بدء إخراج زكاة الفطر ليكون الأمر موسَّعاً، وليختار المسلم الوقت المناسب له لإِخراج هذه الزكاة.