إن من أسباب اتساع الخلافات بين المذاهب والفقهاء، إِضافةً إِلى ما سبق، هو جمعهم أحياناً الأقوال التي تبدو لهم متناقضة متعارضة على صعيد واحد وفي مستوى واحد في الأخذ والاستدلال دون إجراء أي ترجيحٍ بينها، وكمثالٍ على ذلك القول السابع والعشرون: تنتقل في العشر الأخير كله، بمعنى أن ليلة القدر تأتي سنةً في ليلةِ ثلاثٍ وعشرين، وتأتي سنةً أُخرى في ليلة خمسٍ وعشرين، وتأتي سنةً ثالثةً في ليلة سبعٍ وعشرين، وهكذا، وقد استنبطوا هذا الرأي من عدةِ نصوصٍ، يذكر كلُّ نصٍّ منها ورود ليلة القدر في إحدى ليالي العشر الأخير، فقاموا بجمعها كلِّها على صعيد واحد دون ترجيح، وقالوا بتنقُّلِ ليلة القدر، رغم أن النصوص لم تذكر التنقُّل مطلقاً وإنما ذكرت هذه الليالي المختلفة على أن كلاً منها هي ليلة القدر بالذات.
خامساً: قيام هؤلاء بترجيح نصٍ على نصٍّ آخر، بل على نصوص مماثلة له في الصحة، دون بيان أسباب هذا الترجيح، مما فتح المجال واسعاً أمامهم للاختلاف والتعارض، إذ ما دام الترجيح لا يُشترط له بيانُ الأسباب، فإن كل فقيه يستطيع أن يعمد إلى نصٍّ من هذه النصوص فيرجحه على غيره ويستدلُّ به وحده، وهذا يفتح الباب واسعاً للأخذ بجميع النصوص على كثرتها وتعارضها، فتكثر آراء الفقهاء وتتعارض بنفس أعدادها. فمثلاً القول الثالث عشر إنها ليلة تسعَ عشرةَ رجَّحه القائلون به دون بيان الأسباب، وكمثالٍ على ذلك أيضاً القول الرابع عشر والقول الثامن والعشرون، فإن الترجيحات فيها قد حصلت دون بيان الأسباب، مما لا يمنع الآخرين من رفضها، والإِتيان بترجيحات غيرها.
…وحتى نتبين وجهَ الحق والصواب في هذه المسألة لا بدَّ من استعراض النصوص المتعلقة بها على كثرتها وتعارضها:
أ - مجموعة أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: