ذلك قوله سبحانه { ... فمن كان منكم مريضاً أو على سَفَرٍ فعِدَّةٌ من أَيامٍ أُخَرَ ... } من الآية 184 من سورة البقرة. فهذه الآية الكريمة أطلقت قضاء الصوم {فعِدَّة من أيام أُخَر} فلم تقيِّد ولم تخصِّص، فيكون القضاء عاماً غير مخصَّصٍ، ومطلقاً غير مقيَّد كيفما تمَّ فقد أجزأَ.
قال الإمام أبو حنيفة: وجوب القضاء موسَّع دون تقييدٍ، ولو دخل رمضان الثاني. وقال الطحاوي: التتابع والتفريق سواء. وقال الجمهور: يجوز القضاء في جميع السنة سوى يومي العيد وأيام التشريق. وهذا يعني جواز تأخيره إلى شعبان. وقال الأئمة الأربعة والأوزاعي والثوري وإسحق وأبو ثور بجواز التفريق، واستحبُّوا تتابعه، ورُوي ذلك عن عليٍّ ومعاذ وابن عباس وأنس وأبي هريرة رضي الله عنهم. وكل هذه الأقوال صحيحة باستثناء قول أبي حنيفة: ولو دخل رمضان الثاني.
…وفي المقابل ذهب عبد الله بن عمر وعائشة وعروة بن الزبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي وداود بن علي الظاهري إلى وجوب التتابع، أي لا يفصل بين أيام القضاء فاصل. كما رُوي عن داود القول بوجوب القضاء على الفور مطلقاً. وقال محمد بن المنذر: روينا عن علي بن أبي طالب أنه كره قضاءَ هُ في ذي الحجة، وبه قال الحسن البصري وابن شهاب الزُّهري. وكل هذه الأقوال غير صحيحة، ذلك أن الآية الكريمة قد أطلقت القول بالقضاء دون تقييده بالتتابع، ودون تقييده بالفورية، ودون تقييده بالمنع في ذي الحجة، ولم يرد شيء من ذلك في الأحاديث النبوية، وعلى من قيَّد أن يأتينا بالدليل، وكل ما ورد في الآثار من اختلافات بين الصحابة والفقهاء فإنما هو اجتهادات منهم، والصحابةُ والفقهاءُ لا يملكون تقييدَ مطلقٍ ولا تخصيصَ عامٍّ، لأن التقييد والتخصيص تشريع لا يكون إلا من الشرع نفسه.