اسم الکتاب : موسوعة الفقه المصرية المؤلف : مجموعة من المؤلفين الجزء : 1 صفحة : 49
اجتهاد
الاجتهاد فى اللغة
تحمل الجهد (أى المشقة) ، فلا يستعمل لغة على سبيل الحقيقة إلا فيما فيه مشقة، فلا يقال اجتهد فى حمل الخردلة إلا على نحو من التجوز لضعف الحامل مثلا [1] .
الاجتهاد عند الأصوليين
وهو فى اصطلاح الأصوليين بذل الفقيه غاية جهده فى تحصيل حكم شرعى بحيث يشعر من نفسه أنه عاجز عن المزيد على ذلك [2] .
وعرفه ابن حزم بأنه استنفاد الطاقة فى حكم النازلة حيث يوجد ذلك الحكم، لأن أحكام الشريعة كلها متيقن أن الله تعالى قد بينها بلا خلاف، وهى مضمونة الوجود لعامة العلماء، وإن تعذر وجود بعضها على بعض الناس، فمحال ممتنع أن يتعذر وجوده على كلهم، لأن الله تعالى لا يكلفنا ما ليس فى وسعنا، وما تعذر وجوده على الكل فلم يكلفنا الله تعالى إياه [3] .
والاجتهاد نوعان عند من يقول بإمكان تجزى الاجتهاد: اجتهاد مطلق فى جميع الأحكام، وهو ما يقتدر به على استنباط الأحكام القليلة من أمارة معتبرة عقلا أو نقلا فى الموارد التى يظفر فيها بها [4] .
واجتهاد فى حكم دون حكم، وهو ما يقتدر به على استنباط بعض الأحكام، ولابد بالنسبة للمجتهد فى هذا من أن يعرف جميع ما يتعلق بهذا الحكم، ومن جملة ما يعرفه فيه أن يعلم أنه ليس مخالفا لنص أو إجماع ولا يشترط معرفة ما يتعلق بجميع الأحكام، ويشترط للاجتهاد المطلق عند أهل السنة شروط:
الأول: معرفة مواقع آيات الأحكام من الكتاب بحيث يتمكن من الرجوع إليها عند الحاجة، ولا يتمكن من الرجوع إليها إلا إذا عرف:
(أ) معانى مفرداتها وتراكيبها وخواص ذلك فى الإفادة والاستفادة.
فمعرفة معانى مفرداتها تقتضى أن يعرف وضع كل منها مما يدرك بدراسة كتب اللغة والصرف، ومعانى التراكيب تحتاج إلى النحو، وخواص ذلك تحتاج إلى علوم البلاغة من المعانى والبيان.
(ب) معانيها شريعة، وتتوقف على معرفة علم أصول الفقه، فيعرف علل الأحكام الشرعية كمعرفة أن الحدث المعبر عنه بقوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط ([5] علته النجاسة فقيس عليه كل خارج نجس وكمعرفة العلة فيما له مفهوم موافق، إذ أن المجتهد لمعرفته بالأحكام المتبادرة لكل عالم باللغة يتبين أن العلة شاملة كشمول دلالة النص فتقدم على القياس.
(ج) أقسام الكتاب من العام والخاص والمشترك والمجمل والخفى والظاهر والناسخ والمنسوخ وغير ذلك من تقسيمات الأصوليين، وهذا شىء آخر غير معانيه على ما هو واضح.
الشرط الثانى: أن يعرف من السنة متنا وسندا القدر الذى تتعلق به الأحكام بأن يعرف بالنسبة للمتن نفس الأخبار أنها رويت بلفظ الرسول أو بالمعنى ومواضع المتن لهذا القدر بحيث يتمكن من الرجوع إليه عند الحاجة كما ذكرنا فى معرفة الكتاب، ويعرف بالنسبة للسند سند ذلك القدر من تواتر أو شهرة أو آحاد، وفى ذلك معرفة حال الرواة من الجرح والتعديل، ويكتفى فى هذا الزمان بتعديل أئمة الحديث الموثوق بهم كالبخارى ومسلم والبغوى وغيرهم من أئمة الحديث، وجملة ما يشترط فى معرفة السنة على ما ذكره الغزالى خمسة شروط:
1- معرفة طرقها من تواتر وآحاد لكون المتواترات قطعية الثبوت، والآحاد ظنية الثبوت.
2- معرفة طرق الآحاد وروايتها ليعمل بالصحيح منها ويبعد عن غيره.
3- معرفة أحكام أقوال الرسول وأفعاله ليعلم ما يوجبه كل منها.
4- معرفة ما انتفى عنه الاحتمال وحفظ ألفاظ ما وجد فيه الاحتمال.
5- معرفة الترجيح بينه وبين ما يعارض من الأخبار.
الشرط الثالث: معرفة أنواع القياس عند القائلين به، والمراد منها الأنواع الثلاثة الآتية:
الأول: قياس العلة: إثبات حكم معلوم فى معلوم آخر لاشتراكهما فى علة الحكم عند المثبت. كقياس الحنفية، الخارج النجس من غير السبيلين كالدم الذى يسيل إلى موضع يلحقه حكم التطهير على الخارج من السبيلين لعلة خروج النجاسة.
الثانى: قياس الدلالة (مساواة فرع لأصل فى وصف جامع لا يكون علة للحكم بل يكون لازما مساويا لعلة الحكم) كقياس المكره بالقتل على المكره بجامع الإثم، والإثم ليس علة للقصاص بل هو مساو لها كمساواة الضاحك للناطق فى الأفراد.
الثالث: قياس العكس (إثبات نقيض حكم الأصل فى الفرع لوجود نقيض علته فيه) كما قاس الرسول عليه الصلاة والسلام وطء المنكوحة فأثبت الأجر فيه قياسا على وطء المحرمة فى إثبات الوزر بقياس العكس، وقد سئل عليه الصلاة والسلام: أيأتى أحدنا شهوته، أى الحلال، فيكون له أجر.
فقال: أرأيت لو وضعها فى حرام يكون عليه وزر [6] .
ويرجع إلى مصطلح " قياس ".
وقالت طائفة: لا موضع البتة لطلب حكم النوازل من الشريعة ولا لوجوده إلا إلى نص القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دلالتهما على حكم تلك النازلة دلالة لا تحتمل إلا وجها واحدا، وهذا قول جميع أهل الإسلام قطعا، وهو قول جميع أصحابنا الظاهريين، وبه نأخذ [7] .
وقال أيضا: وجوه الاجتهاد تنحصر فيما جاء فى القرآن، والخبر المسند بنقل الثقات إلى النبى عليه الصلاة والسلام إما نصا على الاسم وإما دليلا من النص لا يحتمل إلا معنى واحدا.
فإن قال قائل: فكيف يفعل العالم إذا سئل عن مسألة فأعيته أو نزلت به نازلة فأعيته، قيل له: وبالله تعالى التوفيق يلزم أن يسأل الرواة عن أقوال العلماء فى تلك المسألة النازلة ثم يعرض تلك الأقوال على كتاب الله تعالى وكلام النبى عليه السلام كما أمره الله تعالى، إذ يقول: (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ([8] ، وإذ يقول: (وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله ([9] ، وقوله تعالى: (فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر ([10] فليرد ما اختلف فيه من الدين إلى القرآن والسنة الواردة عن النبى عليه السلام، وليتق الله ولا يرد ذلك إلى رجل من المسلمين لم يؤمر بالرد إليه [11] . وقال ابن حزم: الاجتهاد فى طلب حكم الله تعالى ورسوله عليه السلام فى كل ما خص المرء من دينه لازم للكل لم يخص الله تعالى بذلك عاميا من عالم [12] .
ومجتهدو الشيعة لا يسوغون نسبة أى رأى يكون وليد الاجتهاد إلى المذهب ككل بل يتحمل كل مجتهد مسئولية رأيه الخاص [13] .
وما كان من ضروريات المذهب يصح نسبته إليه وهم مجتهدون ضمن إطار الإسلام، وهو معنى الاجتهاد المطلق [14] . والشيعة لا يرون أئمتهم مجتهدين، وإنما يرونهم مصادر يرجع إليها لاستقاء الأحكام من منابعها الأصيلة، ولذلك يعتبرون ما يأتون به من السنة.
فأقوال أهل البيت إذن مصدر من مصادر التشريع لديهم وهم مجتهدون فى حجيتها كسائر المصادر والأصول [15] .
محل الاجتهاد وحكمه
كل حكم [16] شرعى ليس فيه دليل قطعى هو محل الاجتهاد، فلا يجوز الاجتهاد فيما ثبت بدليل قطعى كوجوب الصلوات الخمس والزكوات وباقى أركان الإسلام وما اتفقت عليه جليات الشرع التى تثبت بالأدلة القطعية.
فالاجتهاد المقصود هنا هو الاجتهاد فى الظنيات على ما ظهر من تعريفه السابق عند الجمهور.
والاجتهاد بالظنيات عند الجمهور حكمه غلبة الظن بأن ما وصل إليه المجتهد باجتهاد هو الحكم الصواب ويحتمل أن يكون خطأ عند أهل السنة (والمراد بالصواب: الموافقة بما عند الله فى الواقع ونفس الأمر. والمراد بالخطأ: المخالفة بما عند الله فى الواقع ونفس الأمر) .
وأصحاب هذا الرأى يطلق عليهم اسم " المخطئة "، ورأيهم هو المختار عند الحنفية وعامة الشافعية بأدلته الآتية: وعامة المعتزلة يقولون: كل مجتهد مصيب وهذا الخلاف بين أهل السنة وبين عامة المعتزلة ناشئ عن الخلاف فى أن لله تعالى حكما معينا قبل الاجتهاد أولا. فعند أهل السنة لكل حادثة حكم معين عند الله تعالى عليه دليل ظنى إن وجده المجتهد أصاب وله أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإن اخطأ فله أجر الاجتهاد فقط فإذا اجتهدوا فى حادثة وكان لكل مجتهد حكم، فالحكم عند الله تعالى واحد وغيره الخطأ.
وقالت المعتزلة: لا حكم قبل الاجتهاد بل الحكم تابع لظن المجتهد حتى كان الحكم تابعا لظن المجتهد، حتى كان الحكم عند الله تعالى فى حق كل واحد مجتهده هو وكل المجتهدات صواب، فكأن الشرع يقول كل ما وصل إليه المجتهد باجتهاده فهو الحكم فى حقه، وأصحاب هذا الرأى يطلق عليهم اسم " المصوبة ".
الأدلة على أن الحق واحد
استدل القائلون بأن الحق واحد، وهم الأئمة الأربعة وعامة الأصوليين من أهل السنة بأدلة منها.
أما الكتاب قوله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نفثت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكما وعلما ([17] .
وجه الدلالة: أنه تعالى خص سليمان بالفهم فى قوله ففهمناها سليمان، ومنَّ عليه، وكمال المنة فى إصابة الحق، فلو كانا مصيبين لما كان لتخصيص سليمان بالفهم فائدة، ولا مانع من القول، بمفهوم المخالفة فى هذا الموضع عند الحنفية، وواضح أنهما حكما بالاجتهاد لأنه لو كان حكم داود بالنص لما وسع سليمان مخالفته ولما جاز رجوع داود عنه.
وأما السنة فهى الأحاديث الدالة على ترديد الاجتهاد بين الصواب والخطأ، وهى كثيرة، منها ما روى أنه عليه السلام قال: " جعل الله للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا " وقال ابن حزم الظاهرى: أقسام المجتهدين بقسمة العقل الضرورية لا تخرج عن ثلاثة أقسام عندنا:
1- مصيب نقطع على صوابه عند الله تعالى.
2- ومخطئ نقطع على خطئه عند الله تعالى.
3- أو متوقف فيه لا ندرى أمصيب عند الله تعالى أم مخطئ.
وإن أيقنا أنه فى أحد الخيرين عند الله تعالى بلا شك، لأن الله تعالى لا يشك بل عنده علم حقيقة كل شىء، لكنا نقول مصيب عندنا ومخطئ عندنا، أو نتوقف فلا نقول أنه عندنا مخطئ ولا مصيب، وإنما هذا فيما لم يقم على حكمه عندنا دليل أصلا، وما كان من هذه الصفة فلا تحل الفتيا فيه لمن لم يلح له وجهة، إذ لا شك أن عند غيرنا بيان ما جهلناه، كما أن عندنا بيان كثير مما جهله غيرنا، ولم يعر بشر من نقص أو نسيان أو غفلة [18] .
وقال أيضا: إن المجتهدين قسمان، إما مصيب مأجور مرتين، وإما مخطئ، والمخطئ قسمان، مخطئ معذور مأجور مرة وهو الذى أداه اجتهاده إلى أنه على حق عنده، ومخطئ غير معذور ولا مأجور ولكن فى جناح وإثم، وهو من تعمد القول بما صح عنده الخطأ فيه، أو بما لم يقم عنده دليل باجتهاده على أنه حق عنده [19] .
أنواع الاجتهاد
الأول: اجتهاد فى دائرة النص وهو يتضمن الاجتهاد فى معرفة القواعد الكلية التى هى الدليل الإجمالى كاجتهاد الحنفية فى دلالة العام والمطلق أنها قطعية فى مدلولها فلا يخصصها ولا يقيدها خبر الآحاد إلا إذا صارت ظنية بالتخصيص والتقييد كاجتهاد الشافعية فى أن دلالة العام والمطلق ظنية فتخصص بأخبار الآحاد.
الثانى: الاجتهاد بطريق النظر يتضمن قياس المجتهد أمرا لا نص فيه ولا إجماع. على ما ورد فيه نص أو حكم مجمع عليه كما يتضمن استنباط الحكم من قواعد الشريعة الإسلامية العامة مما يطلق عليه البعض الاجتهاد بالرأى.
وقال ابن حزم: نص الله تعالى على أنه لم يكل بيان الشريعة إلى أحد من الناس ولا إلى رأى ولا إلى قياس، ولكن إلى نص القرآن وإلى رسوله عليه السلام فقط، وما عداهما فضلال وباطل ومحال [20] .
اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم
اختلف العلماء فيه على أربعة آراء:
الأول ليس له ذلك لقدرت على النص بنزول الوحى، وإليه ذهب أبو على الجبائى وأبو هاشم، ونقله أبو منصور الماتريدى عن أصحاب الرأى.
لأنه لو جاز له صلى الله عليه وسلم الاجتهاد لجاز مخالفته لمجتهد آخر لأن أحكام الاجتهاد تجوز مخالفتها.
الثانى: أن ذلك جائز له ووقع منه فعلا، وإليه ذهب الجمهور محتجين بما وقع من مثل قياسه القبلة على المضمضة فى عدم إفساد الصوم، وقياسه دين الله على دين العباد فى وجوب قضاء الحج.
ويرى كثير من الحنفية أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بانتظار الوحى فإن لم يرد كان عدم وروده أذنا له بالاجتهاد.
الثالث: وقوعه فى الحروب والآراء دون الأحكام الشرعية كالتأبد وأخبار مكان نزول الجيش فى موقعة بدر.
الرابع: التوقف عن القطع فى ذلك، وحكاه الآمدى عن الشافعى فى رسالته [21] .
أدلة القائلين بأنه صلى الله عليه وسلم متعبد بالقياس:
من الكتاب قوله تعالى: (فاعتبروا يا أولى الأبصار ([22] ، والنبى منهم.
وقوله تعالى: (ففهمناها سليمان (وقد سبق بيان وجه الدلالة فيها.
وأبو يوسف احتج بعموم قوله تعالى:
(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ([23] أى بما جعله الله لك رأيا.
ومن السنة حديث الخثعمية، قالت: يا رسول الله، إن أبى مات وعليه حجة أفأحج عنه؟
قال عليه الصلاة والسلام: " أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزيه" قالت: نعم.
قال: " فدين الله أحق بالقضاء ".. قاس رسول الله صلى الله عليه وسلم دين الله على دين العباد.
وبحديث القبلة للصائم لما سأل عمر رضى الله عنه عنها أهى تفطر الصائم؟
قال عليه الصلاة والسلام: " أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته.. " إلى أخر الرواية، اعتبر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة الجماع وهى القبلة بمقدمة الشرب وهى المضمضة فى عدم فساد الصوم.
أما المعقول فهو أن الاجتهاد مبنى على العلم بمعانى النصوص، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أسبق الناس فى العلم حتى كان يعلم المتشابه الذى لا يعلمه أحد من الأمة بعده [24] .
الاجتهاد فى زمن الرسول
جواز الاجتهاد:
اختلفوا فى جواز الاجتهاد لأمة محمد صلى الله عليه وسلم فى زمنه على مذاهب: الأول: يجوز الاجتهاد مطلقا بحضوره وغيبته ونقل عن محمد بن الحسن واختاره الغزالى والآمدى ودليله أن الأمر بالاجتهاد غير ممتنع عقلا، فيجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول: قد أوحى إلى أنكم مأمورون بالاجتهاد والعمل، فإن ذلك لا يلزم منه محال لا لذاته ولا لغيره.
الثانى: يمتنع مطلقا فى زمنه صلى الله عليه وسلم، دليله أن أهل عصره عليه الصلاة والسلام قادرون على الرجوع إليه فامتنع ارتكاب طريق الظن وهو الاجتهاد مع القدرة على النص من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبيح أن يترك القادرون على العمل باليقين فيعمدون إلى العمل بالظن.
الثالث: يجوز للغائبين من القضاة والولاة دون الحاضرين ودليل الامتناع للحاضرين هو الدليل الذى سبق فى الرأى الثانى، ودليل الجواز للقضاة والولاة هو الوقوع، والوقوع أكبر دليل على الجواز.
الرابع: أنه إذا ورد فيه إذن خاص جاز وإلا فلا، فهو ممتنع عقلا لغير إذن خاص ودليله هو المذكور فى الرأى الثانى أيضا على أن الجواز للغائب لضرورة تعسر الرجوع أو تعذره إليه صلى الله عليه وسلم والإذن الخاص يقتضى الاطمئنان إلى أنه لا يخطئ.
وقوع الاجتهاد فى زمن النبى (صلى الله عليه وسلم)
اختلفوا فى وقوع هذا الاجتهاد على أقوال:
الأول: أنه لم يقع اجتهاد من غيره صلى الله عليه وسلم فى زمنه أصلا، ولو وقع لنقل إلينا، وأيضا فإن الصحابة كانوا يرفعون إليه صلى الله عليه وسلم الحوادث ولو كانوا مأمورين بالاجتهاد لم يرفعوها.
الثانى: أن الاجتهاد فى زمنه وقع من الحاضرين والغائبين. أما الغائبون فدليل وقوعه لهم حديث معاذ لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وقال له صلى الله عليه وسلم: " بم تقضى؟ ". قال: بكتاب الله.
قال: " فإن لم تجد؟ ".
قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: " فإن لم تجد؟ ".
قال: أقضى برأيى.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
" الحمد لله الذى وفق رسول رسوله إلى ما يرضى به رسوله "، وهذا الحديث مشهور تلقته الأمة بالقبول فصح أن يثبت به أصل من أصول الدين.
وأما الحاضرون فدليل الوقوع لهم أولا: تحكيم سعد بن معاذ فى بنى قريظة وعمرو بن العاص وعقبة بن عامر ليحكما بين رجلين.
وثانيا: قوله تعالى: (وشاورهم فى الأمر ([25] .
الثالث: أنه وقع من غائبين دون الحاضرين وهو رأى الأكثر ودليل الوقوع للغائبين حديث معاذ السابق ذكره، أما حديثا التحكيم لسعد ولعمرو بن العاص وعقبة فهما من أخبار الآحاد التى لا تثبت بها أصول الدين.
الاجتهاد بعد زمن الرسول
أما الاجتهاد بعد عصره فجائز عند عامة الأصوليين والفقهاء بالشروط التى سبق توضيحها لم يخالف فى ذلك إلا الشيعة الذين يقولون بعصمة أئمتهم وأنهم مصادر التشريع على ما سبق بيانه.
ولكن فى حالة غيبة الإمام يجوزون الاجتهاد. وباب الاجتهاد المطلق مفتوح عندهم [26] .
جواز خلو الزمان عن مجتهد
يجوز خلو الزمان عن مجتهد عند أبى حنيفة ومالك والشافعى والسلف جميعا ومنع الحنابلة ذلك فقالوا: لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد.
استدل القائلون بالجواز بأنه ليس ممتنعا لذاته، إذ لا يلزم من فرض وقوعه محال فلو كان ممتنعا لكان ممتنعا لغيره والأصل عدم الغير. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فيسيئوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا "، وهذا ظاهر فى جواز خلو الزمان عن مجتهد.
واستدل الحنابلة بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق حتى يأتى أمر الله "، وهو ظاهر فى عدم الخلو إلى يوم القيامة أو إلى أشراط الساعة.
وقالوا أيضا: الاجتهاد فرض كفاية، فيكون انتفاؤه بخلو الزمان عن المجتهد مستلزما لاتفاق المسلمين على الباطل وأنه محال. (انظر مصطلح " مجتهد ")
1) ترتيب القاموس المحيط ج1 ص467 مادة جهد.
2) انظر التلويح حاشية التوضيح على متن التنقيح ج2 ص117، 118، مطبعة دار الكتاب العربى ومختصر المنتهى ج2 ص389، 390 من القسم المطبوع بمطبعة الخشاب بمصر.
3) الأحكام لابن حزم ج 8 ص133 الطبعة الأولى سنة 1347 هجرية.
4) الأصول العامة للفقه المقارن ص579 الطبعة الأولى طبع بيروت سنة 1963م.
5) سورة المائدة:6.
6) انظر باب الاجتهاد فى حاشية السعد على شرح التوضيح ج2 من ص118 إلى آخر هذا المبحث.
7) الأحكام لابن حزم الظاهرى ج8 ص134.
8) سورة الأنبياء:7.
9) سورة الشورى: 10.
10) سورة النساء: 59.
11) الأحكام لابن حزم الظاهرى ج6 ص150.
12) المرجع السابق ج8 ص151.
13) المرجع السابق ص596.
14) المرجع السابق ص596.
15) الأصول العامة للفقه المقارن لتقى الدين الحكيم ص292.
16) انظر شرح التوضيح ج2 ص117 إلى نهاية المبحث.
17) سورة الأنبياء: 78.
18) الأحكام لابن حزم ج 8 ص136.
19) المرجع السابق ص138.
20) الأحكام لابن حزم الظاهرى ج8 ص18.
21) انظر روضة الناظر ج2 ص409، وإرشاد الفحول للشوكانى ص215.
22) سورة الحشر:2.
23) سورة النساء: 105.
24) انظر حاشية الكشف لعبد العزيز البخارى على البزدوى ج2 مختصر المنتهى لابن الحاجب ج2 والتقرير والتحبير ج3.
25) انظر شرح مختصر المنتهى لابن الحاجب من ص292.
26) الأصول العامة للفقه المقارن ص605.
اسم الکتاب : موسوعة الفقه المصرية المؤلف : مجموعة من المؤلفين الجزء : 1 صفحة : 49