responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع المؤلف : الكاساني، علاء الدين    الجزء : 2  صفحة : 95
لَزِمَهُ صَوْمُ الْإِقَامَةِ، وَهُوَ صَوْمُ الشَّهْرِ حَتْمًا فَهُوَ بِالسَّفَرِ يُرِيدُ إسْقَاطَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ كَالْيَوْمِ الَّذِي سَافَرَ فِيهِ، إنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا، كَذَا هَذَا وَلِعَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] جَعَلَ اللَّهُ مُطْلَقَ السَّفَرِ سَبَبَ الرُّخْصَةِ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ إنَّمَا كَانَ سَبَبَ الرُّخْصَةِ لِمَكَانِ الْمَشَقَّةِ وَإِنَّهَا تُوجَدُ فِي الْحَالَيْنِ فَتَثْبُتُ الرُّخْصَةُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا.
وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ بِالْإِهْلَالِ فِي الْحَضَرِ لَزِمَهُ صَوْمُ الْإِقَامَةِ، فَنَقُولُ: نَعَمْ إذَا أَقَامَ، أَمَّا إذَا سَافَرَ يَلْزَمُهُ صَوْمُ السَّفَرِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رُخْصَةُ الْإِفْطَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ عَمَلًا بِالْآيَتَيْنِ.
فَكَانَ أَوْلَى بِخِلَافِ الْيَوْمِ الَّذِي سَافَرَ فِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ فَدَخَلَ تَحْتَ خِطَابِ الْمُقِيمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَلَزِمَهُ إتْمَامُهُ حَتْمًا.
فَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي، وَالثَّالِثُ فَهُوَ مُسَافِرٌ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ خِطَابِ الْمُقِيمِينَ، وَلِأَنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ كَانَ مُقِيمًا فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ فَكَانَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ الْإِقَامَةِ.
وَأَمَّا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ فَهُوَ مُسَافِرٌ فِيهِ فَكَانَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ فِي حَقِّهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ صَوْمِ السَّفَرِ فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ مَعَ رُخْصَةِ الْإِفْطَارِ وَلَوْ لَمْ يَتَرَخَّصْ الْمُسَافِرُ وَصَامَ رَمَضَانَ جَازَ صَوْمُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَجُوزُ صَوْمُهُ فِي رَمَضَانَ وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَحَكَى الْقُدُورِيُّ فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: يَجُوزُ صَوْمُهُ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسِ وَعَائِشَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعِنْدَ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا يَجُوزُ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أَمَرَ الْمُسَافِرَ بِالصَّوْمِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ صَامَ فِي رَمَضَانَ، أَوْ لَمْ يَصُمْ إذْ الْإِفْطَارُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، فَكَانَ هَذَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَ وَقْتَ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ أَيَّامًا أُخَرَ وَإِذَا صَامَ فِي رَمَضَانَ فَقَدْ صَامَ قَبْلَ وَقْتِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي مَنْعِ لُزُومِ الْقَضَاءِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ صَامَ فِي السَّفَرِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» ، وَالْمَعْصِيَةُ مُضَادَّةٌ لِلْعِبَادَةِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ» فَقَدْ حَقَّقَ لَهُ حُكْمَ الْإِفْطَارِ (وَلَنَا) مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَامَ فِي السَّفَرِ وَرُوِيَ أَنَّهُ أَفْطَرَ» كَذَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ صَامُوا فِي السَّفَرِ وَرُوِيَ أَنَّهُمْ أَفْطَرُوا حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَهَلَّ هِلَالُ رَمَضَانَ وَهُوَ يَسِيرُ إلَى نَهْرَوَانَ فَأَصْبَحَ صَائِمًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَرَضَ، وَالسَّفَرَ مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُرَخِّصَةِ لِلْإِفْطَارِ تَيْسِيرًا وَتَخْفِيفًا عَلَى أَرْبَابِهَا وَتَوْسِيعًا عَلَيْهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]
فَلَوْ تَحَتَّمَ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ فِي غَيْرِ السَّفَرِ وَلَا يَجُوزُ فِي السَّفَرِ لَكَانَ فِيهِ تَعْسِيرٌ وَتَضْيِيقٌ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا يُضَادُّ مَوْضُوعَ الرُّخْصَةِ وَيُنَافِي مَعْنَى التَّيْسِيرِ فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ فِي وَضْعِ الشَّرْعِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ السَّفَرَ لَمَّا كَانَ سَبَبَ الرُّخْصَةِ فَلَوْ وَجَبَ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُودِ الْأَدَاءِ لَصَارَ مَا هُوَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ سَبَبَ زِيَادَةِ فَرْضٍ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّ غَيْرِ صَاحِبِ الْعُذْرِ وَهُوَ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُودِ الْأَدَاءِ فَيَتَنَاقَضُ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الصَّوْمِ لِلْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فَإِنَّ التَّابِعِينَ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ بَعْدَ وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَالْخِلَافُ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ لَا يُمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ فِي الْعَصْرِ الثَّانِي، بَلْ الْإِجْمَاعُ الْمُتَأَخِّرُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِفْطَارَ مُضْمَرٌ فِي الْآيَةِ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَتَقْدِيرُهَا: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
وَعَلَى ذَلِكَ يَجْرِي ذِكْرُ الرُّخْصِ عَلَى أَنَّهُ ذِكْرُ الْحَظْرِ فِي الْقُرْآنِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] إلَى قَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] أَيْ: مَنْ اُضْطُرَّ فَأَكَلَ لِأَنَّهُ لَا إثْمَ يَلْحَقُهُ بِنَفْسِ الِاضْطِرَارِ وَقَالَ تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] أَيْ: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَأَحْلَلْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ عَلَى النُّسُكِ مِنْ الْحَجِّ مَا لَمْ يُوجَدْ الْإِحْلَالُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196] أَيْ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ وَدَفَعَ الْأَذَى عَنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَالْحَدِيثَانِ مَحْمُولَانِ عَلَى مَا إذَا كَانَ الصَّوْمُ يُجْهِدُهُ وَيُضْعِفُهُ فَإِذَا لَمْ يُفْطِرْ فِي السَّفَرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ صَارَ كَاَلَّذِي أَفْطَرَ فِي الْحَضَرِ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِفْطَارُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لِمَا فِي الصَّوْمِ

اسم الکتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع المؤلف : الكاساني، علاء الدين    الجزء : 2  صفحة : 95
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست