responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع المؤلف : الكاساني، علاء الدين    الجزء : 2  صفحة : 229
فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ عَلَى سَبِيلِ الْكِفَايَةِ احْتَجَّ بِالْأَوَامِرِ الْوَارِدَةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ قَطْعًا، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ النَّاسِ لَوْ تَرَكَهُ لَا يَأْثَمُ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ عَلَى طَرِيقِ الْكِفَايَةِ، فَأَشْبَهَ الْجِهَادَ، وَصَلَاةَ الْجِنَازَةِ، وَرَدَّ السَّلَامِ.
وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إنَّهُ وَاجِبٌ عَيْنًا لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ يَقُولُ: صِيغَةُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقَةُ عَنْ الْقَرِينَةِ تَحْتَمِلُ الْفَرْضِيَّةَ، وَتَحْتَمِلُ النَّدْبَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ دُعَاءٌ وَطَلَبٌ، وَمَعْنَى الدُّعَاءِ وَالطَّلَبِ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَيُؤْتَى بِالْفِعْلِ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ تَفْسِيرُ وُجُوبِ الْعَمَلِ، وَيُعْتَقَدُ عَلَى الْإِبْهَامِ عَلَى أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصِّيغَةِ مِنْ الْوُجُوبِ الْقَطْعِيِّ أَوْ النَّدْبِ فَهُوَ حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ وَاجِبًا عِنْدَ اللَّهِ فَخَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ بِالْفِعْلِ، فَيَأْمَنُ الضَّرَرَ وَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ، فَكَانَ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَخْذًا بِالثِّقَةِ، وَالِاحْتِيَاطِ، وَاحْتِرَازًا عَنْ الضَّرَرِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَنَى أَصْحَابُنَا مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إنَّ النِّكَاحَ فَرْضٌ أَوْ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ مَعَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ أَوْلَى مِنْ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ مَعَ تَرْكِ النِّكَاحِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ كَيْفَ مَا كَانَ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ.
وَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَمُسْتَحَبٌّ؛ فَإِنَّهُ يُرَجِّحُهُ عَلَى النَّوَافِلِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُنَّةٌ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «النِّكَاحُ سُنَّتِي» وَالسُّنَنُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى النَّوَافِلِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَلِأَنَّهُ أَوْعَدَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَلَا وَعِيدَ عَلَى تَرْكِ النَّوَافِلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَاظَبَ عَلَيْهِ أَيْ: دَاوَمَ وَثَبَتَ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَمْ يَخْلُ عَنْهُ، بَلْ كَانَ يَزِيدُ عَلَيْهِ حَتَّى تَزَوَّجَ عَدَدًا مِمَّا أُبِيحَ لَهُ مِنْ النِّسَاءِ.
وَلَوْ كَانَ التَّخَلِّي لِلنَّوَافِلِ أَفْضَلَ لَمَا فَعَلَ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَتْرُكُونَ الْأَفْضَلَ فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ فِيمَا لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ عُدَّ زَلَّةً مِنْهُمْ، وَإِذَا ثَبَتَ أَفْضَلِيَّةُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَبَتَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مِنْ الشَّرَائِعِ هُوَ الْعُمُومُ، وَالْخُصُوصُ بِدَلِيلٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ سَبَبٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَقْصُودٍ هُوَ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِلِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ الْفَاحِشَةِ، وَسَبَبٌ لِصِيَانَةِ نَفْسِهَا عَنْ الْهَلَاكِ بِالنَّفَقَةِ، وَالسُّكْنَى، وَاللِّبَاسِ، لِعَجْزِهَا عَنْ الْكَسْبِ، وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ الْمُوَحِّدِ.
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِلِ، فَكَذَا السَّبَبُ الْمُوَصِّلُ إلَيْهِ كَالْجِهَادِ وَالْقَضَاءِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّخَلِّي أَوْلَى.
وَتَخْرِيجُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَصْلِهِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ النَّوَافِلَ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا، فَكَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْمُبَاحِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ دَلَائِلِ الْإِبَاحَةِ وَالْحِلِّ فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِهَا: إنَّ النِّكَاحَ مُبَاحٌ، وَحَلَالٌ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ، أَوْ مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ لِغَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صِيَانَةٌ لِلنَّفْسِ مِنْ الزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ حَلَالًا بِجِهَةٍ، وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا إلَيْهِ بِجِهَةٍ؛ إذْ لَا تَنَافِيَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39] فَاحْتَمَلَ أَنَّ التَّخَلِّيَ لِلنَّوَافِلِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ النِّكَاحِ فِي شَرِيعَتِهِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي شَرِيعَتِنَا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلَائِلِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ -.

[فَصْلٌ رُكْنُ النِّكَاحِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا رُكْنُ النِّكَاحِ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ.
وَذَلِكَ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا: فِي بَيَانِ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهِ بِحُرُوفِهِ - وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ صِيغَةِ ذَلِكَ اللَّفْظِ.
وَالثَّالِثُ: فِي بَيَانِ أَنَّ النِّكَاحَ هَلْ يَنْعَقِدُ بِعَاقِدٍ وَاحِدٍ أَوْ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِعَاقِدَيْنِ.
وَالرَّابِعُ: فِي بَيَانِ صِفَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ أَمَّا بَيَانُ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ بِحُرُوفِهِ فَنَقُولُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ -: لَا خِلَافَ أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ.
وَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالتَّمْلِيكِ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: يَنْعَقِدُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ، وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ، اتَّخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ» وَكَلِمَتُهُ الَّتِي أَحَلَّ بِهَا الْفُرُوجَ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ لَفْظُ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ فَقَطْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

اسم الکتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع المؤلف : الكاساني، علاء الدين    الجزء : 2  صفحة : 229
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست