responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع المؤلف : الكاساني، علاء الدين    الجزء : 2  صفحة : 188
إلَّا بِمَكَّةَ نَظَرًا لِأَهْلِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الدَّمُ إلَّا بِمَكَّةَ، وَلَنَا أَنَّ نَصَّ الصَّدَقَةِ مُطْلَقٌ عَنْ الْمَكَانِ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الدَّمِ بِمَعْنَى الِانْتِفَاعِ فَاسِدٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْإِحْصَارِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ اخْتِصَاصُ جَوَازِ الذَّبْحِ بِمَكَّةَ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي الصَّدَقَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ وَأَمْكَنَهُ فَتْقُ السَّرَاوِيلِ وَالتَّسَتُّرُ بِهِ فَتَقَهُ، فَإِنْ لَبِسَهُ يَوْمًا وَلَمْ يَفْتُقْهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " يَلْبَسُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ " وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِلُبْسِ مَحْظُورٍ، وَلُبْسُ السَّرَاوِيلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ لُبْسُ غَيْرِ الْمَخِيطِ إلَّا بِالْفَتْقِ، وَفِي الْفَتْقِ تَنْقِيصُ مَالِهِ، وَلَنَا أَنَّ حَظْرَ لُبْسِ الْمَخِيطِ ثَبَتَ بِعَقْدِ الْإِحْرَامِ، وَيُمْكِنُهُ التَّسَتُّرُ بِغَيْرِ الْمَخِيطِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْفَتْقِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْفَتْقُ، وَالسَّتْرُ بِالْمَفْتُوقِ أَوْلَى، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ يَوْمًا كَامِلًا فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ.
وَقَوْلُهُ: " فِي الْفَتْقِ تَنْقِيصُ مَالِهِ " مُسَلَّمٌ لَكِنْ لِإِقَامَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ جَائِزٌ كَالزَّكَاةِ وَقَطْعِ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ إذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ.

وَيَسْتَوِي فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِلُبْسِ الْمِخْيَطِ الْعَمْدُ، وَالسَّهْوُ، وَالطَّوْعُ، وَالْكُرْهُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَا شَيْءَ عَلَى النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ " وَيَسْتَوِي أَيْضًا مَا إذَا لَبِسَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَلْبَسَهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ وَجْهُ قَوْلِهِ: أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِارْتِكَابِ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ لِكَوْنِهِ جِنَايَةً، وَلَا حَظْرَ مَعَ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ، فَلَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِالْجِنَايَةِ فَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَلِهَذَا جُعِلَ النِّسْيَانُ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّوْمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْإِكْرَاهُ عِنْدِي وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي حَالِ الذِّكْرِ وَالطَّوْعِ لِوُجُودِ ارْتِفَاقٍ كَامِلٍ، وَهَذَا يُوجَدُ فِي حَالِ الْكُرْهِ وَالسَّهْوِ.
وَقَوْلُهُ: " فِعْلُ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ لَا يُوصَفُ بِالْحَظْرِ " مَمْنُوعٌ بَلْ الْحَظْرُ قَائِمٌ حَالَةَ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ، وَفِعْلُ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً، وَإِنَّمَا أَثَّرَ النِّسْيَانُ وَالْإِكْرَاهُ فِي ارْتِفَاعِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ جَائِزُ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ عَقْلًا عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا رُفِعَتْ الْمُؤَاخَذَةُ شَرْعًا بِبَرَكَةِ «دُعَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا» ، وَقَوْلُهُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَالِاعْتِبَارُ بِالصَّوْمِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ فِي الْإِحْرَامِ أَحْوَالًا مُذَكِّرَةً يَنْدُرُ النِّسْيَانُ مَعَهَا غَايَةَ النُّدْرَةِ، فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَلَا مُذَكِّرَ لِلصَّوْمِ فَجُعِلَ عُذْرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ عُذْرًا فِي بَابِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ أَحْوَالَ الصَّلَاةِ مُذَكِّرَةٌ كَذَا هَذَا.

وَلَوْ جَمَعَ الْمُحْرِمُ اللِّبَاسَ كُلَّهُ: الْقَمِيصَ، وَالْعِمَامَةَ، وَالْخُفَّيْنِ، لَزِمَهُ دَمٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ لُبْسٌ وَاحِدٌ وَقَعَ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيَكْفِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ كَالْإِيلَاجَاتِ فِي الْجِمَاعِ.

وَلَوْ اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إلَى لُبْسِ ثَوْبٍ فَلَبِسَ ثَوْبَيْنِ فَإِنْ لَبِسَهُمَا عَلَى مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ، بِأَنْ اضْطَرَّ إلَى قَمِيصٍ وَاحِدٍ فَلَبِسَ قَمِيصَيْنِ، أَوْ قَمِيصًا وَجُبَّةً، أَوْ اُضْطُرَّ إلَى الْقَلَنْسُوَةِ فَلَبِسَ قَلَنْسُوَةً وَعِمَامَةً؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ فَيُوجِبُ كَفَّارَةً وَاحِدَةً، كَمَا إذَا اضْطَرَّ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ فَلَبِسَ جُبَّةً، وَإِنْ لَبِسَهُمَا عَلَى مَوْضِعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ: مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَغَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ، كَمَا إذَا اضْطَرَّ إلَى لُبْسِ الْعِمَامَةِ أَوْ الْقَلَنْسُوَةِ فَلَبِسَهُمَا مَعَ الْقَمِيصِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ: كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ لِلُبْسِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَكَفَّارَةُ الِاخْتِيَارِ لِلُبْسِهِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ.

وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا لِلضَّرُورَةِ ثُمَّ زَالَتْ الضَّرُورَةُ، فَدَامَ عَلَى ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَمَا دَامَ فِي شَكٍّ مِنْ زَوَالِ الضَّرُورَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ: كَفَّارَةُ الضَّرُورَةِ.
وَإِنْ تَيَقَّنَ بِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ زَالَتْ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ: كَفَّارَةُ ضَرُورَةٍ، وَكَفَّارَةُ اخْتِيَارٍ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ، فَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهَا بِالشَّكِّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ إنَّ الثَّابِتَ يَقِينًا لَا يَزَالُ بِالشَّكِّ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاللُّبْسُ الثَّانِي وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ، فَكَانَ لُبْسًا وَاحِدًا فَيُوجِبُ كَفَّارَةً وَاحِدَةً، وَإِذَا اسْتَيْقَنَ بِزَوَالِ الضَّرُورَةِ، فَاللُّبْسُ الثَّانِي حَصَلَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ، فَيُوجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةً أُخْرَى.
وَنَظِيرُ هَذَا مَا إذَا كَانَ بِهِ قَرْحٌ أَوْ جُرْحٌ، اضْطَرَّ إلَى مُدَاوَاتِهِ بِالطِّيبِ أَنَّهُ مَا دَامَ بَاقِيًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ تَكَرَّرَ عَلَيْهِ الدَّوَاءُ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ بَاقِيَةٌ فَوَقَعَ الْكُلُّ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ.
وَلَوْ بَرَأَ ذَلِكَ الْقَرْحُ أَوْ الْجُرْحُ، وَحَدَثَ قَرْحٌ آخَرُ أَوْ جِرَاحَةٌ أُخْرَى فَدَاوَهَا بِالطِّيبِ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ زَالَتْ فَوَقَعَ الثَّانِي عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَكَذَا الْمُحْرِمُ إذَا مَرِضَ أَوْ أَصَابَتْهُ الْحُمَّى، وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى لُبْسِ الثَّوْبِ فِي وَقْتٍ، وَيَسْتَغْنِي عَنْهُ فِي وَقْتِ الْحُمَّى، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، مَا لَمْ تَزُلْ عَنْهُ تِلْكَ الْعِلَّةُ لِحُصُولِ اللُّبْسِ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَلَوْ زَالَتْ عَنْهُ تِلْكَ

اسم الکتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع المؤلف : الكاساني، علاء الدين    الجزء : 2  صفحة : 188
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست