responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع المؤلف : الكاساني، علاء الدين    الجزء : 2  صفحة : 161
كُلِّهَا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا تَعْيِينَ هَذِهِ الْأَشْهُرِ لِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] فَيُعْمَلُ بِالنَّصَّيْنِ، فَيُحْمَلُ مَا تَلَوْنَا عَلَى الْإِحْرَامِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ، وَيُحْمَلُ مَا تَلَوْتُمْ عَلَى نَفْسِ الْأَعْمَالِ عَمَلًا بِالنَّصِّ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ، وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ، ثُمَّ يَجُوزُ الْإِحْرَامُ مِنْ غَيْرِ مَكَانِ الْحَجِّ بِالْإِجْمَاعِ، فَيَجُوزُ فِي غَيْرِ زَمَانِ الْحَجِّ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ أَنْ لَا يُحْرَمَ بِالْحَجِّ إلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَمُخَالِفَةُ السُّنَّةِ مَكْرُوهَةٌ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِأَجْلِ الْوَقْتِ أَمْ لِغَيْرِهِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْكَرَاهَةُ لَيْسَتْ لِأَجْلِ الْوَقْتِ، بَلْ لِمَخَافَةِ الْوُقُوعِ فِي مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ حَتَّى أَنَّ مَنْ أَمِنَ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ الْكَرَاهَةَ لِنَفْسِ الْوَقْتِ، فَإِنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ رَوَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَهُ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْأَشْهُرِ، وَيَجُوزُ إحْرَامُهُ وَهُوَ لَابِسٌ أَوْ جَالِسٌ فِي خَلُوقٍ أَوْ طِيبٍ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِنَفْسِ الْوَقْتِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا فَنَقُولُ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا نَوَى، وَقَرَنَ النِّيَّةَ بِقَوْلٍ وَفِعْلٍ هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ أَوْ دَلَائِلِهِ أَنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِأَنْ لَبَّى نَاوِيًا بِهِ الْحَجَّ إنْ أَرَادَ بِهِ الْإِفْرَادَ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ، إنْ أَرَادَ الْإِفْرَادَ بِالْعُمْرَةِ، أَوْ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، إنْ أَرَادَ الْقِرَانَ؛ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ مِنْ خَصَائِصِ الْإِحْرَامِ، وَسَوَاءٌ تَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ مَا نَوَى بِقَلْبِهِ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ عَمَلُ الْقَلْبِ لَا عَمَلُ اللِّسَانِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ مَا نَوَى بِقَلْبِهِ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ كَذَا فَيَسِّرْهُ لِي، وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي لِمَا ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ سُنَنِ الْحَجِّ، وَذَكَرْنَا التَّلْبِيَةَ الْمَسْنُونَةَ، وَلَوْ ذَكَرَ مَكَانَ التَّلْبِيَةِ التَّهْلِيلَ أَوْ التَّسْبِيحَ أَوْ التَّحْمِيدَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى مَقْرُونًا بِالنِّيَّةِ يَصِيرُ مُحْرِمًا.
وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ فِي بَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ بِكُلِّ ذِكْرٍ هُوَ ثَنَاءٌ خَالِصٌ لِلَّهِ تَعَالَى يُرَادُ بِهِ تَعْظِيمُهُ لَا غَيْرُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ هَهُنَا، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا إلَّا بِلَفْظِ التَّلْبِيَةِ كَمَا لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ إلَّا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ فَأَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ مَرَّا عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الذِّكْرَ الْمَوْضُوعَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظٍ دُونَ لَفْظٍ فَفِي بَابِ الْحَجِّ أَوْلَى، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي يُوسُفَ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ: أَنَّ بَابَ الْحَجِّ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ أَفْعَالَ الصَّلَاةِ لَا يَقُومُ بَعْضُهَا مَقَامَ بَعْضٍ، وَبَعْضُ الْأَفْعَالِ يَقُومُ مَقَامَ الْبَعْضِ كَالْهَدْيِ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ كَثِيرٍ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ لَا يُحْسِنُهَا، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ فِي الصَّلَاةِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْحَجِّ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا إلَّا إذَا كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ كَمَا فِي بَابِ الصَّلَاةِ فَهُمَا مَرَّا عَلَى أَصْلِهِمَا، وَمُحَمَّدٌ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا لِأَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى.
وَتَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ بِنَفْسِهِ بِأَمْرِهِ بِلَا خِلَافٍ، حَتَّى لَوْ تَوَجَّهَ يُرِيدُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فَلَبَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ.
وَقَدْ كَانَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ، حَتَّى لَوْ عَجَزَ عَنْهُ بِنَفْسِهِ يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِذَلِكَ نَصًّا فَأَهَلُّوا عَنْهُ جَازَ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ، فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْهَا بِنَفْسِهِ مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْوُقُوفِ، حَتَّى لَوْ طِيفَ بِهِ وَسُعِيَ وَوُقِفَ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ السَّعْيُ فِي التَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ فِعْلَهُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ فِعْلًا لَهُ تَقْدِيرًا بِأَمْرِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ الْفِعْلَ هُنَاكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، بَلْ الشَّرْطُ حُصُولُهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَقَدْ حَصَلَ، وَالشَّرْطُ هَهُنَا هُوَ التَّلْبِيَةُ، وَقَوْلُ غَيْرِهِ لَا يَصِيرُ قَوْلًا لَهُ إلَّا بِأَمْرِهِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَمْرَ هَهُنَا مَوْجُودٌ دَلَالَةً، وَهِيَ دَلَالَةُ عَقْدِ الْمُرَافَقَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ رُفَقَائِهِ الْمُتَوَجِّهِينَ إلَى الْكَعْبَةِ يَكُونُ آذِنًا لِلْآخَرِ بِإِعَانَتِهِ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ، فَكَانَ الْأَمْرُ مَوْجُودًا دَلَالَةً.
وَسَعْيُ الْإِنْسَانِ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ سَعْيًا لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ فَقُلْنَا بِمُوجَبِ الْآيَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ قَلَّدَ بَدَنَةً يُرِيدُ بِهِ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْعُمْرَةِ أَوْ بِهِمَا، وَتَوَجَّهَ مَعَهَا يَصِيرُ مُحْرِمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة: 2] ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى بَعْدَهُ {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] ، وَالْحِلُّ يَكُونُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِحْرَامَ فِي الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ التَّقْلِيدَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة: 2] فَدَلَّ أَنَّ التَّقْلِيدَ مِنْهُمْ مَعَ التَّوَجُّهِ كَانَ إحْرَامًا إلَّا أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِ النِّيَّةُ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ

اسم الکتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع المؤلف : الكاساني، علاء الدين    الجزء : 2  صفحة : 161
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست