responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع المؤلف : الكاساني، علاء الدين    الجزء : 2  صفحة : 119
فِي طَاعَةِ الْمُنْعِمِ، وَشُكْرُ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا، وَشَرْعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ كَيْفِيَّةُ فَرْضِ الْحَجّ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ فَرْضِهِ فَمِنْهَا: أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ لَا فَرْضُ كِفَايَةٍ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْوُجُوبِ عَيْنًا لَا يَسْقُطُ بِإِقَامَةِ الْبَعْضِ عَنْ الْبَاقِينَ بِخِلَافِ الْجِهَادِ فَإِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ تَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ النَّاسِ عَيْنًا، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ مَا عَلَيْهِ إلَّا بِأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ إلَّا إذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بِأَدَاءِ غَيْرِهِ، كَالْجِهَادِ، وَنَحْوِهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْحَجِّ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَلَيْلَةٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَالزَّكَاةَ، وَالصَّوْمَ يَجِبَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ لِمَا عُرِفَ فِي (أُصُولِ الْفِقْهِ) ، وَالتَّكْرَارُ فِي بَابِ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ زَائِدٍ لَا بِمُطْلَقِ الْأَمْرِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحَجِّ سَأَلَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحَجِّ أَلِعَامِنَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: لِلْأَبَدِ» ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِكُلْفَةٍ عَظِيمَةٍ، وَمَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَلَوْ، وَجَبَ فِي كُلِّ عَامٍ؛ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ، وَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَدَاؤُهُ إلَّا بِحَرَجٍ لَا يُؤَدَّى فَيَلْحَقُ الْمَأْثَمُ، وَالْعِقَابُ إلَى هَذَا أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا سَأَلَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَقَالَ: أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لِلْأَبَدِ، وَلَوْ قُلْتُ فِي كُلِّ عَامٍ لَوَجَبَ، وَلَوْ وَجَبَ ثُمَّ تَرَكْتُمْ لَضَلَلْتُمْ» .
وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَالتَّرَاخِي، ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى يَأْثَمَ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ، وَهِيَ السَّنَةُ الْأُولَى عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَذَكَرَ أَبُو سَهْلٍ الزَّجَّاجِيُّ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فَقَالَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ: يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ: عَلَى التَّرَاخِي، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
وَرُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ الْحَجَّ فِي وَقْتٍ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ ثُمَّ بَيَّنَ، وَقْتَ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ (عَزَّ وَجَلَّ) : {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أَيْ: وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَصَارَ الْمَفْرُوضُ هُوَ الْحَجُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُطْلَقًا مِنْ الْعُمْرِ فَتَقْيِيدُهُ بِالْفَوْرِ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ لِسَنَةِ ثَمَانٍ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَحَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَنَةِ الْعَشْرِ، وَلَوْ كَانَ وُجُوبُهُ عَلَى الْفَوْرِ لَمَا احْتَمَلَ التَّأْخِيرَ مِنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ لَوْ أَدَّى فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ يَكُونُ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا، وَلَوْ كَانَ، وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ.
وَقَدْ فَاتَ الْفَوْرُ فَقَدْ فَاتَ وَقْتُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا لَا مُؤَدِّيًا كَمَا لَوْ فَاتَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ عَنْ وَقْتِهَا، وَصَوْمُ رَمَضَانَ عَنْ وَقْتِهِ.
وَلَهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ فِي وَقْتِهِ مُطْلَقٌ يَحْتَمِلُ الْفَوْرَ، وَيَحْتَمِلُ التَّرَاخِيَ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْفَوْرِ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّهُ إذَا حُمِلَ عَلَيْهِ يَأْتِي بِالْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا خَوْفًا مِنْ الْإِثْمِ بِالتَّأْخِيرِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْفَوْرُ فَقَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فَأَمِنَ الضَّرَرَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّرَاخِي لَا يَضُرُّهُ الْفِعْلُ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ يَنْفَعُهُ؛ لِمُسَارَعَتِهِ إلَى الْخَيْرِ، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى التَّرَاخِي رُبَّمَا لَا يَأْتِي بِهِ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَالثَّالِثَةِ فَتَلْحَقُهُ الْمَضَرَّةُ إنَّ أُرِيدَ بِهِ الْفَوْرُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْحَقُهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ التَّرَاخِي، فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْفَوْرِ حَمْلًا عَلَى أَحْوَطِ الْوَجْهَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى، وَهَذَا قَوْلُ إمَامِ الْهُدَى الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ فِي كُلِّ أَمْرٍ مُطْلَقٍ عَنْ الْوَقْتِ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْفَوْرِ لَكِنْ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْفَوْرُ أَوْ التَّرَاخِي بَلْ يُعْتَقَدُ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْفَوْرِ، وَالتَّرَاخِي فَهُوَ حَقٌّ، وَرَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ مَلَكَ زَادًا، وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ أَخَّرَ الْحَجَّ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: مَنْ مَلَكَ كَذَا فَلَمْ يَحُجَّ، وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ بِلَا فَصْلٍ أَيْ لَمْ يَحُجَّ عَقِيبَ مِلْكِ الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ بِلَا فَصْلٍ، وَأَمَّا طَرِيقُ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فَإِنَّ لِلْحَجِّ وَقْتًا مُعَيَّنًا مِنْ السَّنَةِ يَفُوتُ عَنْ تِلْكَ السَّنَةِ بِفَوَاتِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَلَوْ أَخَّرَهُ عَنْ السَّنَةِ الْأُولَى.
وَقَدْ يَعِيشُ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ.
وَقَدْ لَا يَعِيشُ فَكَانَ التَّأْخِيرُ عَنْ السَّنَةِ الْأُولَى تَفْوِيتًا لَهُ لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ لِلْحَالِ إلَى أَنْ يَجِيءَ، وَقْتُ الْحَجِّ مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَفِي إدْرَاكِهِ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ شَكٌّ، فَلَا يَرْتَفِعُ الْفَوَاتُ الثَّابِتُ لِلْحَالِ بِالشَّكِّ، وَالتَّفْوِيتُ

اسم الکتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع المؤلف : الكاساني، علاء الدين    الجزء : 2  صفحة : 119
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست