responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع المؤلف : الكاساني، علاء الدين    الجزء : 2  صفحة : 113
نَوْعَيْ الِاعْتِكَافِ: الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ عَاكِفِينَ فِي الْمَسَاجِدِ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبَاشِرُوا الْجِمَاعَ فِي الْمَسَاجِدِ؛ لِيُنْهَوْا عَنْ الْجِمَاعِ فِيهَا فَدَلَّ أَنَّ مَكَانَ الِاعْتِكَافِ هُوَ الْمَسْجِدُ وَيَسْتَوِي فِيهِ الِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ وَالتَّطَوُّعُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ ثُمَّ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ يُرِيدُ بِهِ الرَّجُلَ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: إنَّهُ يَصِحُّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ.
وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ تُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ كُلُّهَا، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَأَنَّهُ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا لِثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» وَفِي رِوَايَةٍ: وَمَسْجِدِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ» وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: إنْ ثَبَتَ فَهُوَ عَلَى التَّنَاسُخِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَصَارَ مَنْسُوخًا بِدَلَالَةِ فِعْلِهِ؛ إذْ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْلُحُ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى بَيَانِ الْأَفْضَلِ كَقَوْلِهِ «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» أَوْ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَكْرَهُهَا.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ إنْ ثَبَتَ فَيُحْمَلُ عَلَى الزِّيَارَةِ أَوْ عَلَى بَيَانِ الْأَفْضَلِ فَأَفْضَلُ الِاعْتِكَافِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ثُمَّ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ ثُمَّ فِي الْمَسَاجِدِ الْعِظَامِ الَّتِي كَثُرَ أَهْلُهَا وَعَظُمَ.
أَمَّا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَمَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا تَعْدِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ مَا خَلَا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» ؛ وَلِأَنَّ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، مِنْ كَوْنِ الْكَعْبَةِ فِيهِ وَلُزُومِ الطَّوَافِ بِهِ ثُمَّ بَعْدَهُ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهُ مَسْجِدُ أَفْضَلِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ ثُمَّ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ؛ لِأَنَّهُ مَسْجِدُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسْجِدٌ أَفْضَلُ مِنْهُ ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْجَامِعُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مَجْمَعِ الْمُسْلِمِينَ لِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ بَعْدَهُ الْمَسَاجِدُ الْكِبَارُ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْجَوَامِعِ لِكَثْرَةِ أَهْلِهَا.

وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهَا لَا تَعْتَكِفُ إلَّا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَلَا تَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ وَإِنْ شَاءَتْ اعْتَكَفَتْ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا، وَمَسْجِدُ بَيْتِهَا أَفْضَلُ لَهَا مِنْ مَسْجِدِ حَيِّهَا وَمَسْجِدُ حَيِّهَا أَفْضَلُ لَهَا مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ، بَلْ يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَالْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ لَا عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ وَهَذَا عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الِاعْتِكَافَ قُرْبَةٌ خُصَّتْ بِالْمَسَاجِدِ بِالنَّصِّ، وَمَسْجِدُ بَيْتِهَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْمُعَدِّ لِلصَّلَاةِ فِي حَقِّهَا حَتَّى لَا يَثْبُتَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ هَذِهِ الْقُرْبَةِ فِيهِ وَنَحْنُ نَقُولُ: بَلْ هَذِهِ قُرْبَةٌ خُصَّتْ بِالْمَسْجِدِ لَكِنَّ مَسْجِدَ بَيْتِهَا لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي حَقِّهَا فِي حَقِّ الِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمَ الْمَسْجِدِ فِي حَقِّهَا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ لِحَاجَتِهَا إلَى إحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ فَأُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ فِي حَقِّهَا حَتَّى كَانَتْ صَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِ دَارِهَا وَصَلَاتُهَا فِي صَحْنِ دَارِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِ حَيِّهَا» وَإِذَا كَانَ لَهُ حُكْمُ الْمَسْجِدِ فِي حَقِّهَا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْمَسْجِدِ سَوَاءٌ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَعْتَكِفَ فِي بَيْتِهَا فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الْمُعَدُّ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ بَيْتِهَا حُكْمُ الْمَسْجِدِ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِكَافُهَا فِيهِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَم.

[فَصْلٌ رُكْنُ الِاعْتِكَافِ]
(فَصْلٌ) :
وَأَمَّا رُكْنُ الِاعْتِكَافِ وَمَحْظُورَاتِهِ وَمَا يُفْسِدُهُ وَمَا لَا يُفْسِدُهُ فَرُكْنُ الِاعْتِكَافِ: هُوَ اللُّبْثُ وَالْإِقَامَةُ يُقَالُ: اعْتَكَفَ وَعَكَفَ أَيْ: أَقَامَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} [طه: 91] أَيْ: لَنْ نَزَالَ عَلَيْهِ مُقِيمِينَ وَيُقَالُ: فُلَانٌ مُعْتَكِفٌ عَلَى

اسم الکتاب : بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع المؤلف : الكاساني، علاء الدين    الجزء : 2  صفحة : 113
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست