اسم الکتاب : شرح المعتمد في أصول الفقه المؤلف : محمد الحبش الجزء : 1 صفحة : 30
/متن المنظومة/
وبعدَما أدركتَ حكمةَ الخِلافْ ... خذْ واضحاً أسبابَ ذاكَ الاختلافْ
فاختلفوا في واقعِ الجِبِّلَةْ ... إذ لم تقيدِ العقولَ الملّةْ
واختلفُوا في لغةِ القرآنِ ... كالقرءِ والنَّكاحِ في البَيَانِ
واختلفُوا في عَصْرِهم ومِصْرهم ... وحالِهم وبالِهم وعُرْفهِم
-106 و 107- شرع الناظم يعدد أسباب الاختلاف بين الفقهاء فذكر منها:
أولاً: الاختلاف في أصل الجبلة، وذلك أن الناس - والعلماء منهم - لم يخلقوا على طبيعة واحدة، فتجد فيهم الحازم واللين، والشديد والهين وهذا تفاوت قضى به أمر الله ولا مبدل لكلمات الله.
ولم تأت الملّة السمحاء بقيد على العقول، بل كان كلٌّ يختار ما يناسب فطرته مما أذن به الله سبحانه.
-108- ثانياً: اختلفوا في المعنى اللغويِّ للكلمة، فربَّ كلمة في العربية تردُ على أكثر من معنى فكان كلُّ فقيه يختار واحداً من هذه الوجوه، ودلَّلَ الناظم على ذلك بمثالين: القرء فهو يستعمل في العربية بمعنى الطهر بين الحيضتين - وهو اختيار الشافعية، ويستعمل أيضاً بمعنى الحيض - وهو اختيار الحنفية -، وكذلك لفظ النكاح فإنه يأتي بمعنى العقد، ويأتي بمعنى الدخول الحقيقي.
-109- وذكر من أسباب الاختلاف، اختلاف الزمان والمكان والبيئات والأعراف، فلكلِ زمانٍ أحكامه وظروفه، والشريعة السمحاء فيها سعة وتنوع يسع كل عصر ومكان وبيئةٍ وعرف، ولكن الخطأ إمضاء حكم ما مخصوص على سائر الأعصر.
/متن المنظومة/
واختلفوا في الفَهمِ للمرادِ ... بالنَصِّ في سبيلِ الاجتهادِ
فهذهِ الأسبابُ لن تباشرَهْ ... وهاكُمُ أسبابَهُ المباشِرَةْ
أَوَّلُّها الخلافُ في المصَادِرِ ... مِنْ كلِّ ما أتى بلا تواتُرِ
-110- ومن أسباب اختلافهم تفاوت فهمهم للنصوص ودلالتها، وذلك أن النصوص الشرعية لها دلالات قطعية ودلالات ظنية، وهم لا يختلفون في قطعي الدلالة ولكنهم يختلفون في ظني الدلالة.
مثال ذلك: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} . المائدة -38 فدلالة الآية قطعية لا شك فيها، ولكن دلالتها على النباش والمختلس والطَّرار والمغلّ دلالة ظنية محتملة.
-111 و 112- ذكر الناظم أن الأسباب السالفة أسباب غير مباشرة، أي مصدرها خارج عن الفقه الإسلامي، ثم شرع يعدد الأسباب المباشرة فقال:
أولاً: الخلاف في المصادر غير المتواترة، وذلك أن العلماء لا يختلفون في شيء تواتر إسناده إلى المعصوم (، والتواتر هو أن يروي النص جمع عن جمع تحيل العادة تواطؤهم على الكذب.
ولكن وقع الخلاف في بعض روايات الآحاد، وهذا أمر طبيعي إذ يجوز عقلاً الاختلاف في توثيق فلان أو تجريحه، وهو لا ينقض من أصول الشريعة ولا من فروعها شيئاً.
واعلم أن القرآن كله متواتر من شك في شيء منه كفر، والسنة العملية المشتملة على أحكام الصلاة والصيام والزكاة والحج والعقائد كلها متواترة، وثمة قريب من مائتي حديث لفظي بلغ رتبة التواتر، وقد فصل الإمام السيوطي ذلك في كتابه اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة. وفيه تساهل بَيِّن.
/متن المنظومة/
وبعدَهُ الخلافُ في الحديثِ ... مصطلحاً كالجهلِ بالحديثِ
وعدم الثبوتِ عند واحدِ ... كذاكَ في شروطِ نقلِ الواحدِ
أو علمُهُ بواحدٍ منَ السَّنَدْ ... بضعفِه كذاكَ نسيانُ السَّنَدْ
ثَالثُها الخلافُ في القواعدِ ... كضابطِ الإيجابِ والتباعُدِ
والخلفُ في دلالةِ الألفاظ ... والعامِ والخاصِ مِنْ الأَلفاظِ
-113 و 114 و 115- ثاني تلك الأسباب: الاختلاف في مصطلح الحديث، إذ أن مصطلح الحديث علم محدث، تفاوتت في تقريره، قرائح الأئمة، وذكر الناظم من ذلك ثلاثة أمثلة:
الأول: الجهل بالحديث، فقد يبلغ الحديث بعض الرواة، ولا يبلغ البعض الآخر فينشأ من ذلك اختلاف في نتيجة الاستدلال.
الثاني: عدم الثبوت عند أحد الأئمة، وهنا يبلغه الحديث، ولكنه لا يتحقق من ثبوته لانقطاع في الإسناد، أو علة في الرواية.
الثالث: شروط نقل الآحاد، فقد كان للأئمة مناهج مختلفة في إثبات الاتصال والمعاصرة واللقيا، وقد ترتب على ذلك أيضا تفاوت في نتيجة الاستدلال.
الرابع: علمه بعلة في الإسناد: فقد يثبت له الاتصال والمعاصرة، ولكنه يعلم جرحاً في أحد الرواة لم يطلع عليه غيره، والمرء مأمور بأن يلتزم ما أدى إليه عيانه في الرجال ولو خالفه اجتماع الثقات.
-116 و 117- ثالث تلك الأسباب هو الاختلاف في القواعد الأصولية، كاختلافهم في دلالة الألفاظ على الأحكام، واختلافهم في شمول الألفاظ وعدمه واختلافهم في دلالة العام على كافة أفراده، وسيأتي تفصيل هذه المسائل في مواضعها.
/متن المنظومة/
والخلفُ في قواعدِ التَّرْجيحِ ... والنسخِ والتخصيصِ والتَّصريحِ
كذاكَ ما شذَّ مِنَ الرِّوايَةْ ... ومرسلُ الحديثِ في الدِّرايَةْ
-118- وكذلك اختلافهم في قواعد التعارض والترجيح، فقد يتوهم المرء وجود تعارض بين بعض النصوص، وقد تتعارض النصوص الظنية فعلاً، فلا بد هنا من الترجيح، والترجيح هنا يكون بإعمال أحد النصين، كما يكون بإعمالهما معاً كل في مناطه، وهذه المسائل لا تتفق عليها مناهج العلماء، ويؤدي ذلك إلى اختلاف الاجتهاد. وكذلك اختلافهم في قواعد النسخ، وإعمال المنسوخ، وتخصيص العام وتقييد المطلق.
-119- ومن أسباب اختلاف الفقهاء، اختلافهم في الاحتجاج بالرواية الشاذة من القرآن الكريم، فقد كان بعض الصحابة يكتب في مصحفه كلمات على سبيل التفسير والبيان، فرواها الناس عنه على أنها قراءة، مثال ذلك زيادة ابن مسعود كلمة متتابعات، عقب قوله تعالى: فصيام ثلاثة أيام في سورة المائدة. ومع اتفاقهم على أن القراءة الشاذة ليست قرآناً غير أنهم اختلفوا في الاحتجاج بها. فاختيار أبي حنيفة وأحمد وجوب العمل بها واختيار الجمهور أنها من باب قول الصحابي يستأنس به ولا يجب العمل به.
وأما الحديث المرسل فهو ما رفعه التابعي مباشرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو على قاعدة الرواية حديث منقطع، ولكن لما كان الساقط من الرواية هو الصحابي والصحابة كلهم عدول، كان ذلك الساقط ثقة لا يضر الجهل باسمه، ولكن ذلك اختيار الحنفية والمالكية وبعض الشافعية، فيما يرى الإمام الشافعي أن المرسل ليس بحجة وهو في عداد الحديث الضعيف.
/متن المنظومة/
فخلفُهم لعللٍ وَجيهَةْ ... بَيَّنتُها فكُنْ بِهَا نَبيها
-120- وأجمل القول فأشار أن الخلاف كان له أسبابه الموضوعية المقنعة، وعلى طالب العلم أن يتنبه إليها ليرفع غاشية سوء الظن عن السلف الصالح.
اسم الکتاب : شرح المعتمد في أصول الفقه المؤلف : محمد الحبش الجزء : 1 صفحة : 30