responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح المؤلف : القاري، الملا على    الجزء : 1  صفحة : 60
وَقَادِرٌ عَلَى مَا أَقْدَرَهُمْ، فَإِنْ عَمِلُوا بِالطَّاعَةِ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا عَمِلُوا، وَإِنْ عَمِلُوا بِالْمَعْصِيَةِ فَلَوْ شَاءَ لَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا عَمِلُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَيْسَ هُوَ الَّذِي جَبَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ جَبَرَ اللَّهُ الْخَلْقَ عَلَى الطَّاعَةِ لَأَسْقَطَ عَنْهُمُ الثَّوَابَ، وَلَوْ جَبَرَهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَأَسْقَطَ عَنْهُمُ الْعِقَابَ، وَلَوْ أَهْمَلَهُمْ كَانَ ذَلِكَ عَجْزًا فِي الْقُدْرَةِ، وَلَكِنْ لَهُ فِيهِمُ الْمَشِيئَةُ الَّتِي غَيَّبَهَا عَنْهُمْ، فَإِنْ عَمِلُوا بِالطَّاعَةِ فَلَهُ الْمِنَّةُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ عَمِلُوا بِالْمَعْصِيَةِ فَلَهُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، وَالسَّلَامُ، فَهَذِهِ رِسَالَةٌ يَظْهَرُ عَلَيْهَا أَنْوَارُ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِتَوْحِيدِ ذَاتِ الْحَقِّ؛ لِأَنَّ إِتْيَانَ الْمَقْدُورَاتِ وَأَحْكَامِهَا عَلَى مَا هُوَ حَقُّهَا فِي أَزْمِنَةٍ وَأَمْكِنَةٍ مَخْصُوصَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَوَحُّدِ الْحُكْمِ بِتَقْدِيرِهَا الْمُقْتَضِي لِتَوَحُّدِ الْمُقَدِّرِ، وَالْعِلْمِ بِصِفَاتِهِ كَسِعَةِ عِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَآثَارِ قُدْرَتِهِ، وَحِكْمَتِهِ لِلْمَخْلُوقِينَ، وَنُفُوذِ قَضَائِهِ فِيهِمْ، وَالْعِلْمِ بِكَمَالِ صُنْعِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَأَنَّ الْحَوَادِثَ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الْأَسْبَابِ الْإِلَهِيَّةِ فَيَعْلَمُ أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَقْطَعُ الْقَدَرَ، وَلَا يُنَازِعُ أَحَدًا فِي طَلَبِ شَيْءٍ مِنَ اللَّذَّاتِ، وَلَا يَأْنَسُ بِهَا إِذَا وَجَدَهَا، وَلَا يَغْضَبُ بِسَبَبِ فَوْتِ شَيْءٍ مِنَ الْمَطَالِبِ، وَلَا بِوُقُوعِ شَيْءٍ مِنَ الْمَهَارِبِ. قَالَ تَعَالَى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: " «مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ» ". فَيَكُونُ مُسْتَسْلِمًا لِلْحَقِّ فِيمَا أَرَادَهُ مِنَ الْقَضَاءِ الْمُطْلَقِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ مَعَ سَائِرِ الْخَلْقِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ وُجُودَ مَخْلُوقَاتِهِ لِمَظَاهِرِ تَجَلِّي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَلِكُلٍّ مِنْهَا مِقْدَارٌ مُقَدَّرٌ لِمَظَاهِرِ تَجَلِّي مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِمَّا يَلِيقُ بِهِ، وَهُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ، وَبِذَلِكَ يُسَبِّحُ لَهُ كَمَا قَالَهُ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] وَلِكُلِّ ذَرَّةٍ لِسَانٌ مَلَكُوتِيٌّ نَاطِقٌ بِالتَّسْبِيحِ، وَالتَّحْمِيدِ تَنْزِيهًا لِصَانِعِهِ، وَحَمْدًا لَهُ عَلَى مَا أَوْلَاهُ مِنْ مَظْهَرِيَّتِهَا لِلصِّفَاتِ الْجَمَالِيَّةِ وَالْجَلَالِيَّةِ فَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مَقَادِيرُ لِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ دُونَ ذَاتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسَعُهَا إِلَّا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ لَا يَسَعُنِي أَرْضِي، وَلَا سَمَائِي، وَلَكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، وَلِذَا قِيلَ: قَلْبُ الْمُؤْمِنِ عَرْشُ اللَّهِ. وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ: لَوْ وَقَعَ الْعَالَمُ أَلْفَ أَلْفِ مَرَّةٍ فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا قَلْبِ الْعَارِفِ مَا أَحَسَّ بِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[قَالَ: (صَدَقْتَ) قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ] : قِيلَ أَيِ: الْمَعْهُودُ ذِهْنًا فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26] وَ {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الْآيَاتِ مَا اشْتَمَلَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَحْوَالِ، وَالْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْنَى الْأَخَصُّ فَقِيلَ أَرَادَ بِهِ الْإِخْلَاصَ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ مَعًا لِأَنَّ مَنْ تَلَفَّظَ بِالْكَلِمَةِ، وَجَاءَ بِالْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِخْلَاصِ لَمْ يَكُنْ إِيمَانُهُ صَحِيحًا قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ. فَكَانَ الْمُخْلِصُ فِي الطَّاعَةِ يُوصِلُ الْفِعْلَ الْحِسِّيَّ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمُرَائِي يُبْطِلُ عَمَلَ نَفْسِهِ، وَالْإِخْلَاصُ تَصْفِيَةُ الْعَمَلِ مِنْ طَلَبِ عِوَضٍ، وَغَرَضِ عَرَضٍ، وَرُؤْيَةِ رِيَاءٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِحْسَانُ الْعَمَلِ، وَهُوَ إِحْكَامُهُ وَإِتْقَانُهُ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْإِخْلَاصَ، وَمَا فَوْقَهُ مِنْ مَرْتَبَةِ الْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ، وَنَفْيِ الشُّعُورِ عَمَّا سِوَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْجَوَابُ. [قَالَ: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ) ] ، أَيْ: تُوَحِّدَهُ، وَتُطِيعَهُ فِي أَوَامِرِهِ، وَزَوَاجِرِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنْ تَخْشَى اللَّهَ، وَمَآلُهُمَا وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ أَثَرُ الْخَشْيَةِ، وَهِيَ مُنْتِجَةٌ لِلْعِبَادَةِ، وَهِيَ الطَّاعَةُ مَعَ الْخُضُوعِ وَالْمَذَلَّةِ. قَالَ الرَّاغِبُ: الْعِبَادَةُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ مُنَافٍ لِلشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ تَصْدُرُ عَنْ نِيَّةٍ يُرَادُ بِهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى طَاعَةً لِلشَّرِيعَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَهِيَ الْغَايَةُ الْقُصْوَى مِنْ إِبْدَاعِ الْخَلْقِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ. وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ مَعْرِفَةً ازْدَادَ عُبُودِيَّةً، وَلِذَا خُصَّ الْأَنْبِيَاءُ، وَأُولُو الْعَزْمِ بِخَصَائِصَ فِي الْعِبَادَةِ، وَلَا يَنْفَكُّ الْعَبْدُ عَنْهَا مَا دَامَ حَيًّا بَلْ فِي الْبَرْزَخِ عَلَيْهِ عُبُودِيَّةٌ أُخْرَى لَمَّا سَأَلَهُ الْمَلَكَانِ عَنْ رَبِّهِ، وَدِينِهِ، وَنَبِيِّهِ، وَفِي الْقِيَامَةِ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ، وَإِذَا دَخَلَ الْجَنَّةَ كَانَتْ عُبُودِيَّتُهُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ مَقْرُونًا بِأَنْفَاسِهِ، وَفِي كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ: أَنَّ الْعِبَادَةَ حِفْظُ الْحُدُودِ وَالْوَفَاءُ

اسم الکتاب : مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح المؤلف : القاري، الملا على    الجزء : 1  صفحة : 60
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست