- 3 -
مقدمة الناشر للطبعة الأولى
حامداً ومصلياً ومسلماً
اعلم أن الشاه ولي الله الدهلوي - رحمه الله - قد قرر في المبحث السابع من كتابه "حجة الله البالغة" باعتبار فهم المعاني الشرعية من الكتاب والسنة والاستنباط منهما والعمل بهما، مدرستين مستقلتين للتفكير: أهل الحديث، وأهل الرأي. فذكر في إحداهما فقهاء أهل الحديث من مؤلفي الصحاح الستة وغيرهم مع الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، كمجتهدي الأمة - ونسب رئاسة المدرسة الأولى إلى إبراهيم النخعي وأبي حنيفة وأصحابه. ثم قارن بين أصول استدلال المدرستين وطرق الاستنباط والتخريج لهما. وعلاوة على شرحه الأحاديث فيه شرحاً فقهياً، أرسخ قواعد حرية التفكير وسعة النظر باختياره طريقة المدرسة الثانية في شرحه لموطأ الإمام مالك، وترجمته "المسوى والمصفى" لتبقى الأمة المسلمة متحدة عملاً مع اختلافها فكراً ونظراً، متمشية على منهاج السلف الأول.
ثم روج الشاه ولي الله - رحمه الله - تدريس الصحاح الستة على طريقة أهل الحديث بجنب التأليف والتصنيف؛ لأن موضوع تلك الكتب جمع سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كاملة حيث يهتدى بها في جميع نواحي الحياة البشرية قاطبة. ثم من أعظم أوصافها وخصائصها أنها تحمل في طيها سعة النظر، وليس في جمع وتدوين أحاديثها ولا في تبويبها ولا في طرق الاستدلال والاستنباط منها تحديد واقتصار.
فيورد أصحابها كل ما روي من الأحاديث والآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالحين، سواء كان دليلاً لطائفة أو عليها، لا يتعلق لهم بذلك غرض، فيعملون في ثبوت تلك المرويات والاحتجاج بها حرية التفكير والبحث التي تورث الذهن استعداد النقد المثمر البناء.
ولعل هذا هو السبب الأكبر في اختياره مسلك الفقهاء المحدثين أساساً لتوحيد صفوف الفرق المسلمة فكرياً وعملياً، وجعله موضوعاً لبعض مؤلفاته.
ولعله قد شعر بأنه قد ساد على العالم الإسلامي بعد القرن العاشر من الهجري عامة؛ إما الفقه الجامد أو القاصر، أو التصوف المتخشن المفضي إلى الإلحاد، وإن كان هناك شيء في المدارس باسم علوم الحديث فهو تابع للفقه المعاصر، ولم يكن يتعرض للروايات إلا في مجالس الوعظ والقصص بغض النظر عن رطبها ويابسها وصحيحها وسقيمها، أو لتأييد المذاهب الفقهية مهما كانت درجتها في الصحة والثبوت.
ولتحقيق أهداف الفقهاء المحدثين بدأ الشيخ ولي الله - رحمه الله - حركة تجديد عهد المحدثين، وسقى هذا النبت حفيده الشيخ إسماعيل الشيهد (م 1246هـ) ، ثم ترعرع بعده وأثمر هذا الشجر عند طبقة من المحققين الذين استفادوا منه، أعني بهم المحدث الكبير شيخ الكل السيد نذير حسين الدهلوي (م 1320هـ) ، التلميذ الخاص للشاه محمد إسحاق (م 1262هـ) ، والسيد أباالطيب محمد صديق حسن خان (م 1307هـ) ، التلميذ الممتاز والمجاز للشاه محمد يعقوب (م 1282هـ) ، ابن بنت الشاه عبد العزير - رحمه الله -.