responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : الزهد المؤلف : ابن أبي الدنيا    الجزء : 1  صفحة : 160
348 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الْحَنَفِيِّ، قَالَ: كَانَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ يَقُولُ فِي كَلَامِهِ: " فِي كُلِّ حَالٍ تَلْقَى §الدُّنْيَا مُخْتَمِرَةً مُتَنَكِّرَةً، حَتَّى إِذَا هَبَطَتْ دِيَارَ الْهَالِكِينَ كَشَفَتْ قِنَاعَهَا وَانْحَسَرَتْ، فَانْتَصَبَهَا الْعَامِلُونَ مِثَالًا لِأَنْفُسِهِمْ، فَنَظَرُوا فِيهَا بِالْعِبَرِ، وَقَطَعُوا قُلُوبَهُمْ عَمَّا أُخْرِجَ إِلَيْهَا بِالْفِكْرِ فِي الْغِيَرِ، أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْزَلُوا الدُّنْيَا حَقَّ مَنْزِلَتِهَا، فَهُمْ فِيهَا أَهْلُ كَلَالٍ وَوَصَبٍ، قَدْ ذَوَّبُوا الْأَجْسَادَ، وَأَظْمَئُوا الْأَكْبَادَ خَوْفًا أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْهَالِكِينَ قَبْلَهُمْ، الَّذِينَ أَنَاخَتِ الدُّنْيَا فِي دِيَارِهِمْ، فَأَسْعَرَتْهُمْ فِي طَوَارِقِ مِثْلِهَا مِمَّا صَارُوا بِذَلِكَ عِبَرًا وَحَدِيثًا لِلْبَاقِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَالْقَوْمُ فِي مُنَاجَاةِ الْعَزِيزِ بِالِاسْتِكَانَةِ لَهُ، وَالتَّذَلُّلِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِعَاذَةِ بِهِ مِنْ شَرِّ مَا تَهْجُمُ بِهِ الدُّنْيَا عَلَى أَوْلِيَائِهَا، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي الْخَلَاصِ مِنْ ذَلِكَ، لَا يَسْتَكْثِرُونَ لَهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ طَاعَةً، وَلَوْ مَاتُوا قِيَامًا عَلَى الْأَعْقَابِ مُتَعَبِّدِينَ، وَلَا يَسْتَصْغِرُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ إِلَى الدُّنْيَا مِنَ الْمَعَاصِي لَحْظَةً، وَلَوْ كَانُوا أَيَّامَ حَيَاتِهِمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ، مَلَأَتِ الْآخِرَةُ قُلُوبَهُمْ، فَلَيْسَ لِأَنْفُسِهِمْ عِنْدَهُمْ فِي الدُّنْيَا رَاحَةٌ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اتَّصَلَتْ قُلُوبُهُمْ بِمَحَبَّةِ وَصْفِ سَيِّدِهِمْ دَارَ الْقَرَارِ، فَعَلِقُوا مِنَ الْوَصْفِ بِأَوْهَامِ الْعُقُولِ، مَا اسْتَطَارَتْ لِذَلِكَ قُلُوبُهُمْ، وَغَشِيَتْ مِنْ غَيْرِهِ أَبْصَارُهُمْ، فَعَيْشُهُمْ فِي الدُّنْيَا مَنْغُوصٌ، وَحَظُّهُمْ مِنْهَا عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ مَنْقُوصٌ، يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الرَّهْبَةِ مِنْهَا، فَإِذَا ذُكِرَتْ عِنْدَهُمُ الْآخِرَةُ جَاءَتِ -[161]- الرَّغْبَةُ، فَطَاشَتْ عِنْدَهَا الْعُقُولُ، قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ الدُّنْيَا كَأْسُ سَكَرَاتٍ، أَمَاتَتْ شَارِبِيهَا وَهُمْ أَحْيَاءٌ، فَعَمُوا وَهُمْ يُبْصِرُونَ، وَصَمُّوا وَهُمْ يَسْمَعُونَ، وَخَرِسُوا وَهُمْ يَنْطِقُونَ، قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: لَيْتَ الدُّنْيَا لَهُمْ لَمْ تُخْلَقْ، وَلَيْتَهَا إِذْ خُلِقَتْ لَمْ أُخْلَقْ، قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: تَصْرِعُنَا وَنَثِقُ بِهَا، تُرِينَا غِيَرَهَا فَنُوَارِيهِ عَنْ أَنْفُسِنَا، فَيَا عَجَبًا كُلَّ الْعَجَبِ مِنْ زَاهِدٍ فِيكَ وَأَنْتَ تَرْغَبُ فِيهِ، وَيَا عَجَبًا كُلَّ الْعَجَبِ مِنْ مَاقِتٍ لَكَ وَأَنْتَ لَهُ مُحِبٌّ وَأَنْشَدَنِي أَبُو جَعْفَرٍ الْقُرَشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[البحر الرمل]
أَيُّهَا الْآمِنُ الَّذِي ... عَيْنُهُ الدَّهْرَ نَائِمَهْ
أَيْقِظِ الْعَيْنَ إِنَّهَا ... بِالْأَمَانِيِّ حَالِمَهْ
لَا تَغُرَّنْكَ الْحَيَا ... ةُ بِدُنْيَا مُسَالِمَهْ
إِنَّهَا بَعْدَ سِلْمِهَا ... ذَاتَ يَوْمٍ مُرَاغِمَهْ
وَأَنْشَدَنِي أَبُو جَعْفَرٍ:
[البحر الكامل]
احْذَرْ مِنَ الدُّنْيَا تَعَبُّثَهَا ... كَمْ صَالِحٍ عَبِثَتْ بِهِ فَفَسَدْ
مَا بَيْنَ فَرْحَتِهَا وَتَرْحَتِهَا ... إِلَّا كَمَا قَامَ امْرُؤٌ وَقَعَدْ
يَا ذَا الْمُزَوِّقِ دَارَ مُلْكِ بِلًى ... مَضْرُوبَةً مَثَلًا لِدَارِ أَبَدْ
كَمْ مِنْ أَخٍ لَكَ مَاتَ مُسْتَلَبٍ كَشِهَابِ ضَوْءٍ لَاحَ ثُمَّ خَمَدْ

اسم الکتاب : الزهد المؤلف : ابن أبي الدنيا    الجزء : 1  صفحة : 160
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست