أما الرسول صلوات الله وسلامه عليه فلأنه كان يتلقى الوحي عن الله وحده. والله تعالى كتب على نفسه الرحمة ليجمعنه له في صدره وليطلقن لسانه بقراءته وترتيله وليميطن له اللثام عن معانيه وأسراره. اقرأ إن شئت قوله سبحانه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .
ثم بلغ الرسول ما أنزل عليه لأصحابه وقرأه على الناس على مكث أي على مهل وتؤدة ليحسنوا أخذه ويحفظوا لفظه ويفهموا سره. ثم شرح الرسول لهم القرآن بقوله وبعمله وبتقريره وبخلقه أي بسنته الجامعة لأقواله وأفعاله وتقريراته وصفاته مصداقا لقوله سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . ولكن الصحابة وقتئذ كانوا عربا خلصا متمتعين بجميع خصائص العروبة ومزاياها الكاملة من قوة في الحافظة وذكاء في القريحة وتذوق للبيان وتقدير للأساليب ووزن لما يسمعون بأدق المعايير حتى أدركوا من علوم القرآن ومن إعجازه بسليقتهم وصفاء فطرتهم ما لا نستطيع نحن أن ندركه مع رحمة العلوم وكثرة الفنون.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم مع هذه الخصائص أميين وأدوات الكتابة لم تكن ميسورة لديهم والرسول نهاهم أن يكتبوا عنه شيئا غير القرآن وقال لهم أول العهد بنزول القرآن فيما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "لا تكتبوا عني. ومن كتب غير القرآن فليمحه. وحدثوا عني فلا حرج. ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وذلك مخافة أن يلتبس القرآن بغيره أو يختلط بالقرآن ما ليس منه ما دام الوحي نازلا بالقرآن. فلتلك الأسباب المتضافرة لم تكتب علوم القرآن كما لم يكتب الحديث الشريف. ومضى الرعيل الأول على ذلك في عهد الشيخين أبي بكر وعمر. ولكن الصحابة كانوا مضرب الأمثال في نشر الإسلام وتعاليمه والقرآن وعلومه والسنة وتحريرها تلقينا لا تدوينا ومشافهة لا كتابة.