اسم الکتاب : مباحث في علوم القرآن المؤلف : صبحي الصالح الجزء : 1 صفحة : 269
لكن إساءة الأدب حقا مع الله تجسدت في تساهل أصحاب النسخ في الإكثار من القول بالناسخ والمنسوخ رغم علمهم اليقيني بأن ما يواجهونه بالبحث والتأويل هو إلى الإنساء أقرب، وبه ألصق: فقد سلكوا في المنسوخ مأ أمر به لسبب ثم زال سببه، كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين
يرجون لقاء الله[1] ثم نسخه بآية السيف، وليس هذا من النسخ في شيء, وإنما هو ضرب من النسء وتأخير البيان إلى وقت الحاجة كما قال تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا} [2]، فمن تحقق علما بالنسخ علم أن غالب ذلك من المنسأ، أو بيان الحكم المجمل[3]، فقد أنسئ الأمر بالتقال إلى أن يقوى المسلمون، وأمروا في حال الضعف بالصبر على الأذى[4]. وما أحكم الزركشي في تعليقه على هذا الموضوع بقوله: "وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال العلة إلى حكم آخر، وليس بسنخ. إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا"[5].
ومن ذلك أن الإسلام أمر المسلمين في بدء الدعوة -رأفة بهم ورحمة- بمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [6]، ثم كتب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمقاتلة عليه لما قويت الدعوة الإسلامية، فأنزل الله على نبيه في كل حال ما يناسب الظروف التي تحيط به وبالمؤمنين, ولقد حمل هذا بعض العلماء على الإفتاء بالمسالمة والكف عن قتال أهل المنكر لو فرض وقوع الضعف على ما أخبر به [1] ابن سلامة 278. [2] سورة البقرة 106. [3] قارن بالبرهان 2/ 43. [4] انظر الإتقان 2/ 35. [5] البرهان 2/ 42 ونقله السيوطي في "الإتقان" 2/ 35. [6] سورة المائدة 10.
اسم الکتاب : مباحث في علوم القرآن المؤلف : صبحي الصالح الجزء : 1 صفحة : 269