اسم الکتاب : المعجزة الكبرى القرآن المؤلف : أبو زهرة، محمد الجزء : 1 صفحة : 95
التآلف في الألفاظ والمعاني:
56- التآلف في الألفاظ، بألَّا تكون بينها نفرة في المخارج، ولا نفرة في النغم، بل يتلاقى نغمها، وتسهل مخارجها، فلا تكون واحدة نابية عن أختها، بل تتآلف وتتآخى في نسق واحد، بحيث لا تبدو واحدة ينطق غير مؤلف مع نطق تاليتها، أو كما قال الجرجاني في "دلائل الإعجاز": "كل كلمة لقف مع أختها، ولو حاولت أن تنزع كلمة لتضع مكانها في معناها ما ائتلف السياق ولا انسجم الأسلوب" ويقول في هذا الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن":
"واعلم أن هذا علم شريف المحلّ، عظيم المكان، قليل الطلاب، ضعيف الأصحاب، ليست له عشيرة تحميه، ولا أهل بيت عصمة تفطن لما فيه، وهو أدق من السحر، وأهول من البحر ... وكيف لا يكون كذلك وأنت تحسب أن وضع الصبح، في موضع الفجر يحسن في كل كلام، إلَّا أن يكون شعرًا أو سجعًا، وليس كذلك، فإن إحدى اللفظتين قد تنفر في موضع، وتزل عن مكان لا تزل فيه اللفظة الأخرى، بل تتمكّن فيه، وتضرب بجرانها، وتراها في مظانها، وتجدها في غير منازعة في أوطانها، وتجد الأخرى لو وضعت في موضعها لكانت في محلّ نفار، ومرمى شرار، ونابية عن استقرار"[1].
هذا ما ذكره الباقلاني في كتابه، وإذا طرحنا ما فيه من سجع لم يجئ على رسله، واتجهنا إلى ما يرمي إليه وجدناه سليمًا دقيقًا، وإنه لا ينطبق على كلام كما ينطبق على القرآن، ومقام القرآن فيه مقام الذروة والسنام.
وإن التأليف ليس فقط في نسق الألفاظ ونغمها، بل إنه يشتمل التآخي في المعاني كالتآخي في المباني، فلا يكون معنى لفظ نافرًا من المعنى الذي يجاوره، ويتألف من الألفاظ والمعاني وما توعزه من أخيلة، وما تثيره من معانٍ متداعية يدعو بعضها بعضًا، ويتألف منها علم زاخر، كثير خصب، وقد عبَّر عن هذا المعنى الوليد بن المغيرة بقوله: "إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق".
ولنذكر لك شاهدًا على ما نقول هو قصة الأعرابي الذي سمع قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] ، فأخطأ القارئ وقال: غفور رحيم، فقال الأعرابي: إنه يقطع الأيدي نكالًا فلا يتفق القول، فراجع القارئ نفسه وأدرك المعنى.
57- وإن التآخي في المعاني والألفاظ ونسقها ونغمها ومعانيها واضح في كل آيات القرآن، لا في آية دون أخرى، ولا في سورة دون سورة، فلا تجد في لفظ معنى يوجه الخاطر إلى ناحية، ويليه آخر يوجهه إلى ناحية أخرى، بل تجد النواحي متحدة إمَّا بالتقابل وإما بالتلاصق والمجاورة، وفي كلتا الحالين تجد معنى كل لفظ يمهد لمعنى اللفظ الآخر، فلا تنافر في المعاني، كما أنه لا تنافر في الألفاظ، وهما في مجموعها يناسبان في النفس غذاء رطيبًا مريئًا، ونميرًا عذبًا سلسبيلًا.
وقد ساق الباقلاني آيات ليست مختارة اختيارًا؛ لأنَّ آيات القرآن كلها لا نظير لها، فليس اختيار من ينتقي؛ لأنَّ كله خير، وسنذكر آيات مما ذكر وأخرى لم يذكر كأن نفتح الكتاب، فيبدو نوره فنقبس منه قبسة.
وقرأ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [1] إعجاز القرآن ص280 طبع المعارف.
اسم الکتاب : المعجزة الكبرى القرآن المؤلف : أبو زهرة، محمد الجزء : 1 صفحة : 95