اسم الکتاب : المعجزة الكبرى القرآن المؤلف : أبو زهرة، محمد الجزء : 1 صفحة : 198
معلومًا على الجملة، فإنه لا تطمئن نفس العاقل في كل ما يطلب به العلم حتى يبلغ فيه غايته، وحتى يغلغل الفكر في زواياه، وحتى لا يبقى موقع شبهة، ولا مكان مسألة".
116- هذا، وإن هذه الطرق البيانية من تشبيه واستعارة وسائر أنواع المجاز، والكناية ليست في ذاتها، بحيث إذا وجدت في أيّ قول كان بليغًا، إنما البلاغة لا بُدَّ أن تكون متحققة ابتداءً في مادة الكلام وفي موضعه، وفي صوره البيانية، وإن هذه طرق تكون جزءًا من بلاغة الكلام البليغ، وليست هي الخاصة التي تجلعه بليغًا، ولو لم يكن ذا موضوع، أو كان موضوعه من سفساف القول ومبتذلها، إنما قد تكون مع أخوات لها في مثل جمالها، وجلال موضوعها".
وقد ذكرنا ذلك في ماضي قولنا في الاستعارة في قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} ، فإنا نجد بلا ريب جمالًا واضحًا في تشبيه شيوع الشيب في الرأس باشتعال النار، ولكن في الحقيقة لا نجد الجمال في هذه الاستعارة وحدها، بل فيها وما معها من نظم، وتآخٍ في الكلمات، وقد بيِّنَ ذلك عبد القاهر في "دلائل الإعجاز"، فقال في بيان أنَّ الجمال والجلال إنما يكون في مجموع القول لا للاستعارة وحدها: "إنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، ولم ينسبوا الشرف إلّا إليها ولم يروا للمزية موجبًا سواها، هكذا نرى الأمر في ظاهر كلامهم، وليس الأمر على ذلك، ولا هذا الشرف العظيم، ولا هذه المزية الجليلة، ولا هذه الروعة التي تدخل على النفوس لمجرد الاستعارة، ولكن لأن يسلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء، وهو لما هو من سببه، فيرفع به ما يسند إليه، ويؤتى بالذي هو الفعل له من المعنى منصوبًا بعده مبينًا أن ذلك الإسناد، وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل الثاني، ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة؛ كقولهم: طاب زيد نفسًا، وقرَّ عمرو عينًا، وتصبب عرقًا، وكرم أصلًا، وحسن وجهًا، وأشباه ذلك مما نجد الفعل فيه منقولًا إلى ما ذلك الشيء من سببه[1]، وذلك أنَّ نعلم أن اشتعل للشيب في المعنى، وإن كان هو للرأس في اللفظ، كما أن طاب للنفس، وقر للعين، وتصبب للعرق، وإذا أسند إلى ما أسند إليه كان لأنه سلك فيه هذا المسلك، وتوخّى به هذا المذهب، وإن تدع هذا الطريق فيه وتأخذ اللفظ فتسنده إلى الشيب صريحًا، فنقول: اشتعل شيب الرأس، والشيب في الرأس، ثم ننظر هل ذلك [1] يريد عبد القاهر أن يقول: إنَّ الجمال في "اشتعل الرأس شيبًا" ليس في الاستعارة فقط، إنما هو ابتداء في التمييز المحول من الفاعل، فقد ذكر الفعل غير مسند لفاعله، بل أسند لما هو في موضع الفاعل، ثم ذكر بعد ذلك الفاعل الحقيقي وهو الشيب على أنه تميز، وفي التعبير بالتمييز يدل الفاعل إشارة إلى سبب إسناد الفعل، وسبب ذكر الاشتعال.
اسم الکتاب : المعجزة الكبرى القرآن المؤلف : أبو زهرة، محمد الجزء : 1 صفحة : 198