اسم الکتاب : المعجزة الكبرى القرآن المؤلف : أبو زهرة، محمد الجزء : 1 صفحة : 186
الحق والباطل، ولكن يريد الحق تابعًا لهواه، فهو يطلبه ليستضيء بنوره، ولكن ما أن يبدو النور حتى يصاب بالعمى بسبب الهوى الذي يسيطر على قلبه، فيضيء النور ما حوله، ولا يستضيء به، وهو الذي استوقد النار، ثم ينتهي أن يصبر كالصمّ الذين لا يسمعون؛ لأنه لا يستمع لنداء الحق، ويصير كالبكم؛ لأنه لا ينطق بالحق الذي يجب عليه أن ينطق به، وكالأعمى الذي لا يميز بين الأشياء؛ لأنه قد طمس الله تعالى على بصيرته فأصبح لا يميز بين باطل استهواه لفساد قلبه، وحق قامت البينات عليه، وفي الحكم عليهم بالصم والبكم والعمي تشبيهات فردية، وهي تقوم على التشبيه.
والتشبيه في هذا النص تشبيه حالٍ بحال، والآية صريحة في ذلك؛ لأنَّ الله تعالى يقول: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} ، أي: حالهم كحال الذي استوقد نارًا، فهو تشبيه تمثيلي شبهت حال المنافقين، وأكثرهم من اليهود في كونهم كانوا يتطلعون إلى نبي قد حان حينه، وأدركهم إبانه، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلمَّا بدا الضوء أضاء من حولهم، ولم يستضيئوا به، فلم يهتدوا بقولٍ سمعوه، ولا نطقوا بحق عرفوه، ولا استرعتهم بينات رأوها فكانوا صمًّا بكمًا عميًا.
وقد ضرب -سبحانه وتعالى- في السياق القرآني مثلًا بتشبيه آخر، بمثل جانبًا من جوابنهم، فقال بعد التشبيه الأول: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ، يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 19، 20] .
وفي هذا المثل شبه -سبحانه وتعالى- حالهم بأمرين: كل واحد منهما تشبيه قائم بذاته، أولهما: إنَّه -سبحانه وتعالى- شبه حالهم بحال قوم أصابهم مطر شديد ينصب عليهم انصبابًا، صحبه غمام بعد غمام فيه ظلمة بعد ظلمة وفيه رعد وبرق، وفيه الإنذار بالعذاب الشديد، فهم في خوف ووجل يحسبون كل صيحة فيها الموت، ويجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت، وفي هذا تصوير لنفس منافقة، فهي نفس تائهة فارغة دائمًا لا تستقر على أمر، ولا تطمئن على قرار، فهم في اضطراب؛ لأنهم لا يؤمنون بشيء، والإيمان هو المطمئِن دائمًا، ألا بذكر الله تطمئن القلوب، وإذا كان التشبيه السابق يصور حالهم في طلب الدليل وعدم الأخذ به لغلبة الهوى، وسيطرة الشهوة، والجحود الموروث، فهذا التشبيه يصور حالهم من هلع مستمر، وخوف من غير مخوف، ولذلك يقول بعض علماء النفس: إنَّ النفاق منشؤه ضعف في النفوس.
والتشبيه الثاني متفرع عن التشبيه الأول، وإن كان يصلح تشبيهًا قائمًا بذاته، وهو ما أومأ الله تعالى إليه بقوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} ، وإن هذا تتميم للأول،
اسم الکتاب : المعجزة الكبرى القرآن المؤلف : أبو زهرة، محمد الجزء : 1 صفحة : 186