responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : أحكام القرآن - ط العلمية المؤلف : الجصاص    الجزء : 1  صفحة : 649
النِّيَّةِ لِتَرْكِ أَدَائِهَا بِاللِّسَانِ، فَعَقْدُ النِّيَّةِ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ لَا نَصِيبَ لِلْجَوَارِحِ فِيهِ; وَقَدْ انْتَظَمَ الْكَاتِمُ لِلشَّهَادَةِ الْمَأْثَمَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: عَزْمِهِ عَلَى أَنْ لَا يُؤَدِّيَهَا، وَالثَّانِي تَرْكِ أدائها باللسان.
وقوله: {آثِمٌ قَلْبُهُ} مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَهُوَ آكَدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ الْحَقِيقَةِ لَوْ قَالَ: "وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ" وَأَبْلَغُ مِنْهُ وَأَدَلُّ عَلَى الْوَعِيدِ; وَهُوَ مِنْ بَدِيعِ الْبَيَانِ وَلَطِيفِ الْإِعْرَابِ عَنْ الْمَعَانِي تَعَالَى اللَّهُ الْحَكِيمُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَآيَةُ الدَّيْنِ بِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الِاحْتِيَاطِ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ الْمَرْضِيِّينَ وَالرَّهْنُ تَنْبِيهٌ عَلَى مَوْضِعِ صَلَاحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعَهُ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَصَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَنَفْيُ التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ، وَفِي التَّنَازُعِ وَالِاخْتِلَافِ فَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَذَهَابُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا; قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] وَذَلِكَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ إذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا وَشُهُودًا أَوْ كِتَابًا أَوْ رَهْنًا بِمَا عَلَيْهِ وَثِيقَةٌ فِي يَدِ الطَّالِبِ، قَلَّ الْخِلَافُ، عِلْمًا مِنْهُ أَنَّ خِلَافَهُ وَبَخْسَهُ لِحَقِّ الْمَطْلُوبِ لَا يَنْفَعُهُ بَلْ يَظْهَرُ كَذِبُهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ وَفِيهِ وَثِيقَةٌ وَاحْتِيَاطٌ لِلطَّالِبِ، وَفِي ذَلِكَ صَلَاحٌ لَهُمَا جَمِيعًا فِي دِينِهِمَا وَدُنْيَاهُمَا لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ بَخْسَ حَقِّ الطَّالِبِ صَلَاحَ دِينِهِ وَفِي جُحُودِهِ وَبَخْسِهِ ذَهَابَ دِينِهِ إذَا عَلِمَ وُجُوبَهُ; وَكَذَلِكَ الطَّالِبُ إذَا كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَشُهُودٌ أَثْبَتُوا مَا لَهُ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَجَحَدَ الطَّالِبُ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى مُقَابَلَتِهِ بِمِثْلِهِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي كَيْدِهِ حَتَّى رُبَّمَا لَمْ يَرْضَ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ دُونَ الْإِضْرَارِ بِهِ فِي أَضْعَافِهِ مَتَى أَمْكَنَهُ وَذَلِكَ مُتَعَالَمٌ مِنْ أَحْوَالِ عَامَّةِ النَّاسِ. وَهَذَا نَظِيرُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبِيَاعَاتِ الْمَجْهُولَةِ الْقَدْرِ وَالْآجَالِ الْمَجْهُولَةِ وَالْأُمُورِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا النَّاسُ قَبْلَ مَبْعَثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا كَانَ يُؤَدِّي إلَى اخْتِلَافِ وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَنَحْوِهِ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْمَيْسِرِ وَالْقِمَارِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَمَا يُسْكِرُ فَيُؤَدِّي إلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالِاخْتِلَافِ وَالشَّحْنَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لِنَفْيِ الِاخْتِلَافِ وَالْعَدَاوَةِ وَلِمَا فِي ارْتِكَابِهَا مِنْ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، فَمَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّهِ وَانْتَهَى إلَى أَوَامِرِهِ وَانْزَجَرَ بِزَوَاجِرِهِ حَازَ صَلَاحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء: 66 - 68] . وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ فِيهَا بِالْكِتَابِ وَالْإِشْهَادِ عَلَى الدَّيْنِ وَالْعُقُودِ وَالِاحْتِيَاطُ فِيهَا تَارَةً بِالشَّهَادَةِ وَتَارَةً بِالرَّهْنِ، دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِ الْمَالِ وَالنَّهْيِ عَنْ تَضْيِيعِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ

اسم الکتاب : أحكام القرآن - ط العلمية المؤلف : الجصاص    الجزء : 1  صفحة : 649
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست