responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : أحكام القرآن - ط العلمية المؤلف : الجصاص    الجزء : 1  صفحة : 551
كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ حِينَ آمَنَتْ السَّحَرَةُ عِنْدَ إلْقَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعَصَا وَتَلَقُّفِهَا جَمِيعَ مَا أَلْقَوْا مِنْ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ وَعَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسِحْرٍ وَأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ، فَأَرَادَ فِرْعَوْنُ التَّمْوِيهَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا} ; يَعْنِي تَوَاطَأْتُمْ عَلَيْهِ مَعَ مُوسَى قَبْلَ هَذَا الْوَقْتِ حَتَّى إذَا اجْتَمَعْتُمْ أَظْهَرْتُمْ الْعَجْزَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ. وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا مَوَّهَ بِهِ عَلَى أَصْحَابِهِ. وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَدَعْهُ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَا رَامَ حَتَّى أَتَاهُ بِمَا لَمْ يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ بِحَالٍ وَلَا مُعَارَضَةٍ، فَقَالَ: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} فَانْقَطَعَ وَبُهِتَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَلْجَأَ إلَى مُعَارَضَةٍ أَوْ شُبْهَةٍ.
وَفِي حِجَاجِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذَا أَلْطَفُ دَلِيلٍ وَأَوْضَحُ بُرْهَانٍ لِمَنْ عَرَفَ مَعْنَاهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا صَابِئِينَ عَبَدَةَ أَوْثَانٍ عَلَى أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، وَقَدْ حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَلَمْ يَكُونُوا يُقِرُّونَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ حَوَادِثَ الْعَالَمِ كُلَّهَا فِي حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ وَأَعْظَمُهَا عِنْدَهُمْ الشَّمْسُ وَيُسَمُّونَهَا وَسَائِرَ الْكَوَاكِبِ آلِهَةً وَالشَّمْسُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْإِلَهُ الْأَعْظَمُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ إلَهٌ، وَكَانُوا لَا يَعْتَرِفُونَ بِالْبَارِي جَلَّ وَعَزَّ وَهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ وَسَائِرُ مَنْ يَعْرِفُ مَسِيرَ الْكَوَاكِبِ أَنَّ لَهَا وَلِسَائِرِ الْكَوَاكِبِ حَرَكَتَيْنِ مُتَضَادَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا مِنْ الْمَغْرِبِ إلَى الْمَشْرِقِ وَهِيَ حَرَكَتُهَا الَّتِي تَخْتَصُّ بِهَا لِنَفْسِهَا، وَالْأُخْرَى تَحْرِيكُ الْفُلْكِ لَهَا مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ وَبِهَذِهِ الْحَرَكَةُ تَدُورُ عَلَيْنَا كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً، وَهَذَا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ مَسِيرَهَا; فَقَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنَّك تَعْتَرِفُ أَنَّ الشَّمْسَ الَّتِي تَعْبُدُهَا وَتُسَمِّيهَا إلَهًا لَهَا حَرَكَةُ قَسْرٍ لَيْسَ هِيَ حَرَكَةَ نَفْسِهَا بَلْ هِيَ بِتَحْرِيكِ غَيْرِهَا لَهَا يُحَرِّكُهَا مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ، وَاَلَّذِي أَدْعُوك إلَى عِبَادَتِهِ هُوَ فَاعِلُ هَذِهِ الْحَرَكَةِ فِي الشَّمْسِ، وَلَوْ كَانَتْ إلَهًا لَمَا كَانَتْ مَقْسُورَةً وَلَا مُجْبَرَةً. فَلَمْ يُمْكِنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ دَفْعَ هَذِهِ الْحِجَاجِ بِشُبْهَةٍ وَلَا مُعَارَضَةٍ إلَّا قَوْلَهُ: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} وَهَاتَانِ الْحَرَكَتَانِ الْمُتَضَادَّتَانِ لِلشَّمْسِ وَلِسَائِرِ الْكَوَاكِبِ لَا تُوجَدَانِ لَهَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ ذَلِكَ فِي جِسْمٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهَا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَتَخَلَّلَ إحْدَاهَا سُكُونٌ فَتُوجَدَ الْحَرَكَةُ الْأُخْرَى فِي وَقْتٍ لَا تُوجَدُ فِيهِ الْأُولَى.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ سَاغَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الِانْتِقَالُ عَنْ الْحِجَاجِ الْأُوَلِ إلَى غَيْرِهِ؟ قِيلَ لَهُ: لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ بَلْ كَانَ ثَابِتًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَرْدَفَهُ بِحِجَاجٍ آخَرَ كَمَا أَقَامَ اللَّهُ الدَّلَائِلَ عَلَى تَوْحِيدِهِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ وَكُلُّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ دَلَائِلُ عَلَيْهِ، وَأَيَّدَ نَبِيَّهُ بِضُرُوبٍ مِنْ الْمُعْجِزَاتِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لَوْ انْفَرَدَتْ لَكَانَتْ كَافِيَةً مُغْنِيَةً.

اسم الکتاب : أحكام القرآن - ط العلمية المؤلف : الجصاص    الجزء : 1  صفحة : 551
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست