responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : أحكام القرآن - ط العلمية المؤلف : الجصاص    الجزء : 1  صفحة : 549
أَوْ السَّيْفَ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ ثَابِتًا فِي الْحَالِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْكُفْرِ; لِأَنَّهُ مَا مِنْ مُشْرِكٍ إلَّا وَهُوَ لَوْ تَهَوَّدَ أَوْ تَنَصَّرَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَقْرَرْنَاهُ عَلَى دِينِهِ بِالْجِزْيَةِ; وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي سَائِرِ مَنْ انْتَحَلَ دِينَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ حِينَ قَالَ: "مَنْ تَهَوَّدَ مِنْ الْمَجُوسِ أَوْ النَّصَارَى أَجْبَرْته عَلَى الرُّجُوعِ إلَى دِينِهِ أَوْ إلَى الْإِسْلَامِ" وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ; لِأَنَّ فِيهَا الْأَمْرَ بِأَنْ لَا نُكْرِهُ أَحَدًا عَلَى الدِّينِ، وَذَلِكَ عُمُومٌ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَمُشْرِكُو الْعَرَبِ الَّذِينَ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ وَأَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامَ أَوْ السَّيْفَ قَدْ كَانُوا مُكْرَهِينَ عَلَى الدِّينِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي الدِّينِ مُكْرَهًا فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ، فَمَا وَجْهُ إكْرَاهِهِمْ عَلَيْهِ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا أُكْرِهُوا عَلَى إظْهَارِ الْإِسْلَامِ لَا عَلَى اعْتِقَادِهِ; لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يَصِحُّ مِنَّا الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِ; وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ" فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقِتَالَ إنَّمَا كَانَ عَلَى إظْهَارِ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الِاعْتِقَادَاتُ فَكَانَتْ مَوْكُولَةً إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَلَمْ يَقْتَصِرْ بِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقِتَالِ دُونَ أَنْ أَقَامَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةَ وَالْبُرْهَانَ فِي صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، فَكَانَتْ الدَّلَائِلُ مَنْصُوبَةً لِلِاعْتِقَادِ وَإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ مَعًا; لِأَنَّ تِلْكَ الدَّلَائِلِ مِنْ حَيْثُ أَلْزَمْتهمْ اعْتِقَادَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ اقْتَضَتْ مِنْهُ إظْهَارَهُ وَالْقِتَالُ لِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ الْمَصَالِحِ، مِنْهَا: أَنَّهُ إذَا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لَهُ فَإِنَّ مُجَالَسَتَهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَسَمَاعَهُ الْقُرْآنَ وَمُشَاهَدَتَهُ لِدَلَائِلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ تَرَادُفِهَا عَلَيْهِ تَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَتُوَضِّحُ عِنْدَهُ فَسَادَ اعْتِقَادِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ يُعْلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِي نَسْلِهِمْ مِنْ يُوقِنُ وَيَعْتَقِدُ التَّوْحِيدَ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْتَلُوا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ فِي أَوْلَادِهِمْ مَنْ يَعْتَقِدُ الْإِيمَانَ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أُكَرِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْإِيمَانِ: إنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ وَلَا يُتْرَكُ وَالرُّجُوعَ إلَى دِينِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ إنْ رَجَعَ إلَى دِينِهِ وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ; لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُزِيلُ عَنْهُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ إذَا أَسْلَمَ وَإِنْ كَانَ دُخُولُهُ فِيهِ مُكْرَهًا دَالًا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لَهُ; لِمَا وَصَفْنَا مِنْ إسْلَامِ مَنْ أَسْلَمَ من المشركين بقتال النبي صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُهُ: "أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا" فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إظْهَارَ الْإِسْلَامِ عِنْدَ الْقِتَالِ إسْلَامًا فِي الْحُكْمِ، فَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا فِي الْحُكْمِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُقْتَلُوا لِلشُّبْهَةِ. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا أَنَّ أَسِيرًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَوْ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ فَأَسْلَمَ أَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا، وَلَمْ يَكُنْ إسْلَامُهُ خَوْفًا مِنْ الْقَتْلِ مُزِيلًا عَنْهُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ، فَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ.

اسم الکتاب : أحكام القرآن - ط العلمية المؤلف : الجصاص    الجزء : 1  صفحة : 549
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست