responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : أحكام القرآن - ط العلمية المؤلف : الجصاص    الجزء : 1  صفحة : 194
وَالْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ; إذْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُرِيدًا لِتَبْقِيَةِ الْجَمِيعِ، فَالْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ مَوْجُودَةٌ فِي هَؤُلَاءِ، فَوَجَبَ اسْتِوَاءُ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِهِمْ. وَتَخْصِيصُهُ لِأُولِي الْأَلْبَابِ بِالْمُخَاطَبَةِ غَيْرُ نَافٍ مُسَاوَاةَ غَيْرِهِمْ لَهُمْ فِي الْحُكْمِ; إذْ كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي حُكِمَ مِنْ أَجْلِهِ فِي ذَوِي الْأَلْبَابِ مَوْجُودًا فِي غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا وَجْهُ تَخْصِيصِهِ لَهُمْ أَنَّ ذَوِي الْأَلْبَابِ هُمْ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِمَا يُخَاطَبُونَ بِهِ، وَيَنْتَهُونَ إلَى مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ، وَيَزْدَجِرُونَ عَمَّا يُزْجَرُونَ عَنْهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] هُوَ مُنْذِرٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] وَنَحْوِ قَوْلِهِ: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] وَهُوَ هُدًى لِلْجَمِيعِ، وَخَصَّ الْمُتَّقِينَ لِانْتِفَاعِهِمْ بِهِ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ} [البقرة: 185] ؟ فَعَمَّ الْجَمِيعَ بِهِ. وَكَقَوْلِهِ: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم: 18] لِأَنَّ التَّقِيَّ هُوَ الَّذِي يُعِيذُ مَنْ اسْتَعَاذَ بِاَللَّهِ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: قَتْلُ الْبَعْضِ إحْيَاءُ الْجَمِيعِ. وَعَنْ غَيْرِهِ: الْقَتْلُ أَقَلُّ لِلْقَتْلِ وَأَكْثِرُوا الْقَتْلَ لِيَقِلَّ الْقَتْلُ وَهُوَ كَلَامٌ سَائِرٌ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعُقَلَاءِ، وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنَّمَا قَصَدُوا الْمَعْنَى الَّذِي فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ثُمَّ إذَا مَثَّلْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَجَدْتَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتًا بَعِيدًا مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ، وَصِحَّةِ الْمَعْنَى. وَذَلِكَ يَظْهَرُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أن قوله تعالى: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: قَتْلُ الْبَعْضِ إحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ. وَالْقَتْلُ أَقَلُّ لِلْقَتْلِ وَهُوَ مَعَ قِلَّةِ عَدَدِ حُرُوفِهِ وَنُقْصَانِهَا عَمَّا حُكِيَ عَنْ الْحُكَمَاءِ قَدْ أَفَادَ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْكَلَامُ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِهِمْ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْقَتْلَ عَلَى وَجْهِ الْعَدْلِ لِذِكْرِهِ الْقِصَاصَ، وَانْتَظَمَ مَعَ ذَلِكَ الْغَرَضَ الَّذِي إلَيْهِ أُجْرِيَ بِإِيجَابِهِ الْقِصَاصَ، وَهُوَ الْحَيَاةُ. وَقَوْلَهُمْ: الْقَتْلُ أَقَلُّ لِلْقَتْلِ وَقَتْلُ الْبَعْضِ إحْيَاءُ الْجَمِيعِ وَالْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ إنْ حُمِلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَمْ يَصِحَّ مَعْنَاهُ; لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ قَتْلٍ هَذِهِ صِفَتُهُ، بَلْ مَا كَانَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ مَنْزِلَتَهُ، وَلَا حُكْمَهُ. فَحَقِيقَةُ هَذَا الْكَلَامِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلَةٍ، وَمَجَازُهُ يَحْتَاجُ إلَى قَرِينَةٍ وَبَيَانٍ فِي أَنَّ أَيَّ قَتْلٍ هُوَ إحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ. فَهَذَا كَلَامٌ نَاقِصُ الْبَيَانِ مُخْتَلُّ الْمَعْنَى غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ حُكْمِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ مُفِيدٌ لِحُكْمِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ مِنْ مُقْتَضَى لَفْظِهِ مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهِ، أَلَا تَرَى أن قوله تعالى: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أَقَلُّ حُرُوفًا مِنْ قَوْلِهِمْ: قَتْلُ الْبَعْضِ إحْيَاءٌ لِلْجَمِيعِ وَالْقَتْلُ أَقَلُّ لِلْقَتْلِ، وَأَنْفَى لِلْقَتْلِ؟ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يَظْهَرُ فَضْلُ بَيَانِ قَوْلِهِ: {فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} عَلَى قَوْلِهِمْ: الْقَتْلُ أَقَلُّ لِلْقَتْلِ، وَأَنْفَى لِلْقَتْلِ أَنَّ فِي قَوْلِهِمْ تَكْرَارَ اللَّفْظِ، وَتِكْرَارُ الْمَعْنَى بِلَفْظِ غَيْرِهِ أَحْسَنُ فِي حَدِّ الْبَلَاغَةِ،

اسم الکتاب : أحكام القرآن - ط العلمية المؤلف : الجصاص    الجزء : 1  صفحة : 194
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست