اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 83
انقضى المقطع السابق في السورة في تذكير بني إسرائيل بأنعم الله عليهم وجحودهم لهذا الإنعام المتواصل وباستعراض مشاهد الإنعام والجحود، بعضها باختصار وبعضها بتطويل وانتهى هذا الاستعراض بتقرير ما انتهت إليه قلوبهم في نهاية المطاف من قسوة وجفاف وجدب، أشد من قسوة الحجارة وجفافها وجدبها.
فالأن يأخذ السياق في الاتجاه بالخطاب إلى الجماعة المسلمة يحدثها عن بني إسرائيل، ويبصرها بأساليبهم ووسائلهم في الكيد والفتنة ويحذرها كيدهم ومكرهم على ضوء تاريخهم وجبلتهم، فلا تنخدع بأقوالهم ودعاويهم ووسائلهم الماكرة في الفتنة والتضليل. ويدل طول هذا الحديث، وتنوع أساليبه على ضخامة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من الكيد المنصوب لها والمرصود لدينها من أولئك اليهود! وبين آن وآخر يلتفت السياق إلى بني إسرائيل ليواجههم- على مشهد من المسلمين- بما أخذ عليهم من المواثيق، وبما نقضوا من هذه المواثيق وبما وقع منهم من انحرافات ونكول عن العهد وتكذيب بأنبيائهم، وقتلهم لهؤلاء الأنبياء الذين لا يطاوعونهم على هواهم، ومن مخالفة لشريعتهم، ومن التوائهم وجدالهم بالباطل، وتحريفهم لما بين أيديهم من النصوص.
يستعرض جدالهم مع الجماعة المسلمة وحججهم ودعاويهم الباطلة، ويلقن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يفضح دعاويهم، ويفند حججهم، ويكشف زيف ادعاءاتهم، ويرد عليهم كيدهم بالحق الواضح الصريح:
فلقد زعموا أن لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة بحكم ما لهم من المكانة الخاصة عند الله! فلقن الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن يرد عليهم قولهم هذا: «قُلْ: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ؟ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» ..
وكانوا إذا دعوا إلى الإسلام «قالُوا: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ» .. فلقن الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يفضح دعواهم أنهم يؤمنون بما أنزل إليهم: «قُلْ: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؟ وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ؟ وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا. قالُوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ. قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ!» ..
وكانوا يدعون أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس. فلقن الله رسوله- صلى الله عليه وسلم- أن يتحداهم بدعوتهم إلى المباهلة أي أن يجتمع الفريقان: هم والمسلمون، ثم يدعون الله أن يميت الكاذب: «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .. وقرر أنهم لن يتمنوه أبداً- وهذا ما حدث. فقد نكصوا عن المباهلة لعلمهم أنهم كاذبون فيما يدعون! وهكذا يمضي السياق في هذه المواجهة، وهذا الكشف، وهذا التوجيه.. ومن شأن هذه الخطة أن تضعف- أو تبطل- كيد اليهود في وسط الصف المسلم وأن تكشف دسائسهم وأحابيلهم وأن تدرك الجماعة المسلمة طريقة اليهود في العمل والكيد والادعاء، على ضوء ما وقع منهم في تاريخهم القديم.
وما تزال الأمة المسلمة تعاني من دسائس اليهود ومكرهم ما عاناه أسلافها من هذا المكر ومن تلك الدسائس غير أن الأمة المسلمة لا تنتفع- مع الأسف- بتلك التوجيهات القرآنية، وبهذا الهدى الإلهي، الذي انتفع به أسلافها، فغلبوا كيد اليهود ومكرهم في المدينة، والدين ناشىء، والجماعة المسلمة وليدة.. وما يزال اليهود- بلؤمهم ومكرهم- يضللون هذه الأمة عن دينها، ويصرفونها عن قرآنها، كي لا تأخذ منه أسلحتها الماضية، وعدتها الواقية. وهم آمنون ما انصرفت هذه الأمة عن موارد قوتها الحقيقية، وينابيع معرفتها الصافية.. وكل
اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 83