اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 528
البشري على ضوئها فيفقه خط سير التاريخ من ناحية، ويعرف كيف يوجه هذا الخط من ناحية أخرى.
هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام- كما جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم- لا يتحقق في الأرض في دنيا الناس، بمجرد تنزله من عند الله. ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه. ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يُمضي الله ناموسه في دورة الفلك وسير الكواكب، وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية.. إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر، تؤمن به إيماناً كاملاً، وتستقيم عليه- بقدر طاقتها- وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهداً ولا طاقة.. تجاهد الضعف البشري، والهوى البشري، والجهل البشري في أنفسها وأنفس الآخرين.
وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج.. وتبلغ- بعد ذلك كله- من تحقيق هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوى الذي تطيقه فطرة البشر. على أن تبدأ بالبشر من النقطة التي هم فيها فعلاً ولا تغفل واقعهم، ومقتضيات هذا الواقع، في سير مراحل هذا المنهج وتتابعها.. ثم تنتصر هذه المجموعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة وتنهزم في المعركة مع نفسها أو مع نفوس الناس تارة.
بقدر ما تبذل من الجهد وبقدر ما تتخذ من الأساليب العملية وبقدر ما توفق في اختيار هذه الأساليب..
وقبل كل شيء، وقبل كل جهد، وقبل كل وسيلة.. هنالك عنصر آخر: هو مدى تجرد هذه المجموعة لهذا الغرض. ومدى تمثيلها لحقيقة هذا المنهج في ذات نفسها ومدى ارتباطها بالله صاحب هذا المنهج، وثقتها به، وتوكلها عليه.
هذه هي حقيقة هذا الدين وطريقته، وهذه هي خطته الحركية ووسيلته..
وهذه هي الحقيقة التي شاء الله أن يعلمها للجماعة المسلمة، وهو يربيها بأحداث معركة أحد وبالتعقيب على هذه الأحداث..
حينما قصرت في تمثيل حقيقة هذا الدين في ذات نفسها في بعض مواقف المعركة. وحينما قصرت في اتخاذ الوسائل العملية في بعض مواقفها. وحينما غفلت عن تلك الحقيقة الأولية أو نسيتها وفهمت أنه من مقتضى كونها مسلمة أن تنتصر حتماً بغض النظر عن تصورها وتصرفها- حينئذ تركها الله تلاقي الهزيمة وتعاني آلامها المريرة. ثم جاء التعقيب القرآني يردها إلى تلك الحقيقة: «أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ: أَنَّى هذا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
ولكنه- كما قلنا في سياق الاستعراض للنصوص- لا يترك المسلمين عند هذه النقطة، بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج ويكشف لهم عن إرادة الخير بهم من وراء الابتلاء، الذي وقع بأسبابه الظاهرة من تصرفاتهم الواقعة..
إن ترك المنهج الإلهي يعمل ويتحقق عن طريق الجهد البشري، ويتأثر بتصرف البشر إزاءه.. هو خير في عمومه، فهو يصلح الحياة البشرية ولا يفسدها أو يعطلها ويصلح الفطرة البشرية ويوقظها ويردها إلى سوائها..
ذلك أن حقيقة الإيمان لا يتم تمامها في قلب حتى يتعرض لمجاهدة الناس في أمر هذا الإيمان. مجاهدتهم باللسان بالتبليغ والبيان ومجاهدتهم باليد لدفعهم من طريق الهدى حين يعترضونه بالقوة الباغية.. وحتى يتعرض في هذه المجاهدة للابتلاء والصبر على الجهد، والصبر على الأذى، والصبر على الهزيمة، والصبر على النصر أيضاً- فالصبر على النصر أشق من الصبر على الهزيمة- وحتى يتمحص القلب، ويتميز الصف، وتستقيم الجماعة على الطريق، وتمضي فيه راشدة صاعدة، متوكلة على الله.
اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 528