اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 387
كذلك يشي بحاجة القلب البشري في كل حين إلى الجهد الناصب للتخلص من هذه الأوهاق، والتحرر من تلك القيود، والفرار إلى الله والارتباط بمنهجه دون سواه.
والإسلام لا يمنع أن يعامل المسلم بالحسنى من لا يحاربه في دينه، ولو كان على غير دينه.. ولكن الولاء شيء آخر غير المعاملة بالحسنى. الولاء ارتباط وتناصر وتواد. وهذا لا يكون- في قلب يؤمن بالله حقاً- إلا للمؤمنين الذين يرتبطون معه في الله ويخضعون معه لمنهجه في الحياة ويتحاكمون إلى كتابه في طاعة واتباع واستسلام.
31- وأخيراً يجيء ختام هذا الدرس قوياً حازما، حاسماً في القضية التي يعالجها، والتي تمثل أكبر الخطوط العريضة الأساسية في السورة. يجيء ليقرر في كلمات قصيرة حقيقة الإيمان، وحقيقة الدين. ويفرق تفريقا حاسماً بين الإيمان والكفر في جلاء لا يحتمل الشبهات:
«قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ: أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» ..
إن حب الله ليس دعوى باللسان، ولا هياماً بالوجدان، إلا أن يصاحبه الأتباع لرسول الله، والسير على هداه، وتحقيق منهجه في الحياة.. وإن الإيمان ليس كلمات تقال، ولا مشاعر تجيش، ولا شعائر تقام.
ولكنه طاعة لله والرسول، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول..
32- يقول الإمام ابن كثير في التفسير عن الآية الأولى: «هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية. فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ..
ويقول عن الآية الثانية: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ. فَإِنْ تَوَلَّوْا» .. أي تخالفوا عن أمره- «فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» .. فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله..
ويقول الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية في كتابه: «زاد المعاد في هدى خير العباد» :
«ومن تأمل في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له- صلى الله عليه وسلم- بالرسالة وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام.. علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس مجرد المعرفة فقط. ولا المعرفة والإقرار فقط. بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهراً وباطناً..»
إن هذا الدين له حقيقة مميزة لا يوجد إلا بوجودها.. حقيقة الطاعة لشريعة الله، والاتباع لرسول الله، والتحاكم إلى كتاب الله.. وهي الحقيقة المنبثقة من عقيدة التوحيد كما جاء بها الإسلام. توحيد الألوهية التي لها وحدها الحق في أن تعبد الناس لها، وتطوّعهم لأمرها، وتنفذ فيهم شرعها، وتضع لهم القيم والموازين التي يتحاكمون إليها ويرتضون حكمها. ومن ثم توحيد القوامة التي تجعل الحاكمية لله وحده في حياة البشر وارتباطاتها جميعاً، كما أن الحاكمية لله وحده في تدبير أمر الكون كله. وما الإنسان إلا قطاع من هذا الكون الكبير.
وهذا الدرس الأول من السورة يقرر هذه الحقيقة- كما رأينا- في صورة ناصعة كاملة شاملة، لا مهرب من مواجهتها والتسليم بها لمن شاء أن يكون مسلماً. إن الدين عند الله الإسلام.. وهذا- وحده- هو الإسلام
اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 387