اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 33
الإسلام ومن بعده إلى يومنا هذا. مما جعل القرآن يخاطبهم- في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- كما لو كانوا هم أنفسهم الذين كانوا على عهد موسى- عليه السلام- وعلى عهود خلفائه من أنبيائهم باعتبار هم جبلة واحدة. سماتهم هي هي، ودورهم هو هو، وموقفهم من الحق والخلق موقفهم على مدار الزمان! ومن ثم يكثر الالتفات في السياق من خطاب قوم موسى، إلى خطاب اليهود في المدينة، إلى خطاب أجيال بين هذين الجيلين. ومن ثم تبقى كلمات القرآن حية كأنما تواجه موقف الأمة المسلمة اليوم وموقف اليهود منها. وتتحدث عن استقبال يهود لهذه العقيدة ولهذه الدعوة اليوم وغدا كما استقبلتها بالأمس تماما! وكأن هذه الكلمات الخالدة هي التنبيه الحاضر والتحذير الدائم للأمة المسلمة، تجاه أعدائها الذين واجهوا أسلافها بما يواجهونها اليوم به من دس وكيد، وحرب منوعة المظاهر، متحدة الحقيقة! وهذه السورة التي تضمنت هذا الوصف، وهذا التنبيه، وهذا التحذير، تضمنت كذلك بناء الجماعة المسلمة وإعدادها لحمل أمانة العقيدة في الأرض بعد نكول بني إسرائيل عن حملها قديما، ووقوفهم في وجهها هذه الوقفة أخيرا..
تبدأ السورة- كما أسلفنا- بوصف تلك الطوائف التي كانت تواجه الدعوة أول العهد بالهجرة- بما في ذلك تلك الإشارة إلى الشياطين اليهود الذين يرد ذكر هم فيما بعد مطولا- وتلك الطوائف هي التي تواجه هذه الدعوة على مدار التاريخ بعد ذلك. ثم تمضي السورة على محورها بخطيه الأساسيين إلى نهايتها. في وحدة ملحوظة، تمثل الشخصية الخاصة للسورة، مع تعدد الموضوعات التي تتناولها وتنوعها.
فبعد استعراض النماذج الثلاثة الأولى: المتقين. والكافرين. والمنافقين. وبعد الإشارة الضمنية لليهود الشياطين.. نجد دعوة للناس جميعا إلى عبادة الله والإيمان بالكتاب المنزل على عبده. وتحدي المرتابين فيه أن يأتوا بسورة من مثله. وتهديد الكافرين بالنار وتبشير المؤمنين بالجنة.. ثم نجد التعجيب من أمر الذين يكفرون بالله: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ! هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» ..
وعند هذا المقطع الذي يشير إلى خلق ما في الأرض جميعا للناس تجيء قصة استخلاف آدم في الأرض:
«وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» .. وتمضي القصة تصف المعركة الخالدة بين آدم والشيطان حتى تنتهي بعهد الاستخلاف- وهو عهد الإيمان-: «قُلْنَا: اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ..
بعد هذا يبدأ السياق جولة واسعة طويلة مع بني إسرائيل- أشرنا إلى فقرات منها فيما سبق- تتخللها دعوتهم للدخول في دين الله وما أنزله الله مصدقا لما معهم مع تذكيرهم بعثراتهم وخطاياهم والتوائهم وتلبيسهم منذ أيام موسى- عليه السلام- وتستغرق هذه الجولة كل هذا الجزء الأول من السورة.
ومن خلال هذه الجولة ترتسم صورة واضحة لاستقبال بني إسرائيل للإسلام ورسوله وكتابه.. لقد كانوا أول كافربه. وكانوا يلبسون الحق بالباطل. وكانوا يأمرون الناس بالبر- وهو الإيمان- وينسون أنفسهم. وكانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه. وكانوا يخادعون الذين آمنوا بإظهار الإيمان وإذا خلا بعضهم إلى بعض حذر بعضهم بعضا من إطلاع المسلمين على ما يعلمونه من أمر النبي وصحة رسالته! وكانوا يريدون
اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 33